إشتهرت بيروت، في القرون الوسطى، بصورة السيّد المسيح العجائبيّة. يُقال إنّ الصورة، ومنهم مَن قال بأنّه المصلوب، ضربها بعض اليهود بسكّين، فصارت تنزف دمًا، ما جعل اليهود يؤمنون بالمسيح، ويسعون إلى تحويل الدار التي كانت فيها إلى كنيسة، على اسم المخلّص.
لا ندري إذا كانت ثمّة علاقة مباشرة بين صورة السيّد المسيح في بيروت وكفن المسيح . لكنّ بعض العلماء بدأوا يبحثون في تلك العلاقة، ويرجحون أن يكون الكفن قد مَرَّ في بيروت تحت شكل الصورة المذكورة، واستقرّ فيها، قبل بلوغه القسطنطينية.
وربما هناك علاقة مع التلميذ تداوس، الذي ذهب إلى الملك الأبجر في إديسّا، حاملاً «الصورة غير المصنوعة بيد إنسان»، ومنهم مَن يقول بأنّه حمل الكفن، لأنّ التقليد يقول بأنّه عاد إلى بيروت ومات فيها.
وبالرغم من غموض تلك العلاقة، سنقدّم، في ما يلي، مختلف المراجع التي أتت على ذكر هذه الصورة، تاركين لغيرنا من الإختصاصيين في التاريخ التأكّد من صحة الرواية:
السنكسار الماروني1
تحتفل الكنيسة المارونيّة بتذكار معجزة صورة السيّد المسيح في بيروت في العاشر من شهر نيسان، وتقرأ فيه ما يلي:
ذكر هذه المعجزة أثناسيوس، أسقف بيروت، في المجمع السابع المسكوني2، في نيقية، سنة 787، وذلك بعريضة قدّمها لآباء المجمع، فدوّنت في أعماله، وهذا ملخّصها:
كان أحد المسيحيين قد استأجر دارًا قريبة من مجمع اليهود، ووضع في إحدى غرفها صورة المصلوب، ثمّ ترك الدار والصورة. إستأجر الدار يهود، فأخذوا يجرحون تلك الصورة، وطعنوا جنبها بحربة، فخرج منه دم وماء بكثرة. فدهشوا، ودهنوا من ذلك الدم مخلّعًا فشفي حالاً، وأتوا بعميان فأبصروا، وأشلاءً فبرئوا. فآمن كثيرون من اليهود. وحملوا الصورة، وأتوا بها إلى الأسقف، وسألوه أن يعلّمهم قواعد الإيمان المسيحي. ففعل وعمّدهم. وحوّل تلك الدار إلى كنيسة على اسم المخلّص3. وكان ذلك سنة 763.
ولم يزل ذكر هذه الكنيسة معروفًا في بيروت، حيث أقام في القرن الثالث عشر الرهبان الفرنسيسكان ديرًا4 بجانبها وسكنوه.
وأثبت آباء المجمع هذه الآية الباهرة دعمًا لتكريم الأيقونات.
كتاب الأب لويس شيخو عن تاريخ بيروت5
يتكلّم الأب لويس شيخو، الراهب اليسوعي، عن تلك الصورة ويقول:
...وممّا يشهد لرقيّ النصرانيّة في بيروت ما ورد في تاريخ ساويرس الأنطاكي لزخريّا المعروف بالخطيب، حيث يروي أنّ في تلك المدينة كانت ستّ كنائس مسيحيّة، الواحدة منها باسم الرسول يهوذا أو تدّاوس، أحد تلاميذ المسيح، وزعموا أنّه استشهد في بيروت.
وتشيّدت إحدى تلك الكنائس تذكارًا لحادث ذكره صالح بن يحيى، في تاريخ بيروت، ثمّ صارت بعدئذ في أيدي رهبان الفرنج. قال صالح (ص 17): «ويزعمون أيضًا أنّه كان بكنيسة الفرنج ببيروت قونة خشب فيها صورة مصوّرة ضربها بعض اليهود بسكين، فصارت تنزف دمًا. ثمّ نقلت هذه الصورة إلى القسطنطينيّة، فعمّروا عليها كنيسة يعظّمها الفرنج».
يشير صالح إلى معجزة جرت، على ما زعموا، في القرن الخامس، وخبرها مدوّن في جملة أعمال القدّيس أثناسيوس، بطريرك الإسكندريّة. والصواب أنّ كاتبه راو آخَر سميّه عاش بعده. وفي أعمال المجمع النيقاوي الثاني، ورد ذكر هذه الأيقونة التي كانت أولاً ببيروت، ولها عيد يحتفل به في كنائس الشرق والغرب، ويذكره السنكسار الروماني، ويعيّنه في 9 من تشرين الثاني. والمرجّح أنّها لم تكن أيقونة، بل صليبًا، وقد يَدّعي أهل بلنسية في إسبانية أنّ ذلك الصليب لا يزال عندهم، يكرمونه إلى أيّامنا هذه، وقد أثبتنا في مجلّة المشرق (11 : 254) تفاصيل خبره.
كتاب الأب اغناطيوس سعاده عن لبنان في كتابات الرحّالة6
ينقل الأب اغناطيوس سعاده، المرسل اللبناني، روايات بعض الرحالة عن الصورة المذكورة كما يلي:
- في العام 1104، رحل الهيغومينوس، رئيس دير كياف، في رحلة حجّ إلى الأرض المقدّسة، وهو أوّل روسي يدوّن يوميّات رحلته باللغة الروسيّة، وأوّل الرحّالة الذين ذكروا صورة المسيح العجائبيّة في بيروت، فيقول: «ذهبنا إلى بيروت... في هذه المدينة، طعن اليهود أيقونة المسيح، فخرج منها دم وماء، فرسموا إشارة الصليب على جباههم، وارتدّوا إلى المسيحيّة».
- يذكر الراهب الفرنسيسكاني الاسباني، أنطونيو دي أراندا Antonio de Aranda ، في حجّه إلى الأراضي المقدسة، مروره في بيروت، العام 1531، فيقول:
«في بيروت دير لرهبنتنا المقدّسة، وكنيسته كانت قديمًا مجمعًا لليهود، فيها صورة المصلوب. فإمعانًا باحتقارهم مخلّصنا يسوع المسيح، الذي تمثّله هذه اللوحة، أنزلوا بها كلّ أنواع الإهانات، كما فعل أجدادهم بشخص المسيح، فطعنوا جنبه، فخرج من الصورة الخشبيّة كميّة من الدم كانت كافية لخزيهم وإقرارهم وتمجيدهم مخلّصنا المسيح والإيمان الكاثوليكي، بسبب هذه الأعجوبة، وما اختبروه من هذا الدم، الذي وضعوه في إناء، فأعاد النور إلى العميان، وشفى المبتلين بأنواع الأمراض، لمجرّد مسحهم به، أو لمسهم هذا الدم العجائبي المبارك.
فارتدّوا وتعمّدوا على يد ديوداتوس، أسقف المدينة، الذي كرّس المجمع كنيسةً على اسم المخلّص، لخدمة التجار المسيحيين المقيمين في هذه الجهات. ويقوم رهباننا بخدمة هذا المعبد المقدّس كجلجلة ثانية.
وهذه الحادثة مفصّلة في كتبكم التي عنوانها "زهرة القدّيسين" Flos Sanctorum عن أخبار الصليب. وتوجد هنا لوحة دوّنت عليها قصّة هذه الحادثة، وشهد لها أثناسيوس، بطريرك الإسكندريّة، الذي وضع عنها بحثًا تاريخيًا، قرأه بطرس، أسقف نيقوميديا، في مجمع حضره عدد وفير من آباء ذلك الزمن، في مدينة قيصرية كبادوكيا، لمحاربة الضلالات التي نشأت بين المسيحيين حول دم المسيح. ويقول أثناسيوس أنّه أُرسلت بضع نقاط من هذا الدم المبارك والعجائبي إلى عدّة كنائس في الشرق والغرب.
وقد حصل هذا السرّ على عهد قسطنطين الصغير وزوجته إيرينه. وكلّ يوم يقام تذكار احتفالي لهذا السرّ في كنيسة الدير».
- يذكر البارون هنري دي بوفو Henry de Beauvau ، في حجّه إلى الأراضي المقدّسة، مروره في بيروت، العام 1604، فيقول: «...فيها كنيسة صغيرة في مكان حصول أعجوبة كبيرة، وهي أنّ جماعة من اليهود الأشرار جلدوا صورة سيّدنا المسيح، فخرج منها دم غزير».
- يقول الأب دومينيكو ماغري المالطي Domenico Magri عن «الرحلة إلى جبل لبنان»، العام 1624، ما يلي: «...ومدينة بيروت، حيث طعن اليهود صورة المصلوب، فتدفقت منها كميّة وافرة من الدم والماء، فندم اليهود على فعلتهم، واعتنقوا المسيحيّة».
- يروي يوحنا مبارك الماروني الكسرواني، وهو أحد تلامذة المدرسة المارونيّة في روما التي خرج منها دون أن يكمل علومه فيها ويرتسم كاهنًا، فانصهر في المجتمع الإيطالي تحت إسم عائلة بنديتّي، عن رحلته إلى الأراضي المقدّسة ولبنان، ومروره ببيروت، العام 1668، حيث يذكر «رواية اليهودي الذي طعن صورة المسيح فخرج منها الدم».
1 السنكسار بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيّة المارونيّة، إعداد الأب بولس ضاهر، منشورات جامعة الروح القدس-الكسليك-لبنان، طبعة ثانية منقحة ومزيد فيها، 1988، الصفحة 96.
2الجلسة الرابعة: ...وبعد أن قُرئت فقرة من أقوال القدّيس أثناسيوس التي يصف فيها العجائب التي اجترحها في بيروت..." (مجموعة الشرع الكنسي أو قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة، جمع وترجمة وتنسيق الأرشمندريت حنانيا الياس كسّاب، منشورات النور، بيروت، 1975، ص 787).
3 تقع الكنيسة بالقرب من السرايا الكبير لكنّها هدمت زمن المماليك، واستعملت حجارتها في بناء الجامع الكبير، ولا علاقة لها بكنيسة أخرى تحمل الإسم نفسه تقع في شارع السوديكو (منطقة الأشرفية في بيروت) وبعهدة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك (راجع Pierre Moukarzel, Revue d’histoire ecclesiastique, Vol. 103, No.1, Universite de Louvain, Belgique, 2008, p. 50-84
4 هو دير القدّيس يوسف الذي أسّسه الرهبان الفرنسيسكان في بيروت حوالي العام 1330، وهو غير دير الفرنسيسكان المعروف بدير التيرّا سانتا Terra Santa الواقع في شارع غورو (منطقة الجميزة في بيروت) الذي يعود تاريخه إلى العام 1830 (راجع Pierre Moukarzel, Revue d’histoire ecclesiastique, Vol. 103, No.1, Universite de Louvain, Belgique, 2008, p. 50-84 ).
5 الأب لويس شيخو: بيروت تاريخها وآثارها، دار المشرق، بيروت، طبعة ثالثة، 1993، 200 صفحة. يرد ذكر هذا المقطع على الصفحات 41 و 42
6 الأب اغناطيوس سعاده، م. ل. : لبنان في كتابات الرحّالة، دروس ونصوص، منشورات الرسل، 2008، 446 صفحة. وما اقتبس في هذا المقال موجود على الصفحات 45 و 116 و 173 و 181 و 206 .