ملاحظة الناشر
يقدّم العالم يان ولسون فرضية انتقال الكفن من أورشليم إلى إديسّا حيث ظهر تحت تسمية «الصورة غير المصنوعة بيد إنسان» التي اشتهرت بها المدينة في القرون الأولى، مستندًا إلى رواية أوسابيوس القيصري. لكن، لا أوسابيوس ولا إجيريا تكلما عن تلك «الصورة». إكتفت إجيريا بالكلام عن الرسائل المتبادلة بين الأبجر والمسيح يسوع، كما أتى عند أوسابيوس القيصري، مضيفة الكلام عن وعد أعطاه المسيح يسوع إلى أبجر، يقول بأنّ مدينته إديسّا لن يدخلها الأعداء. وكان أنّه في كلّ مرّة يقترب فيها الأعداء من المدينة لمحاصرتها والدخول إليها، تُتلى الرسالة مرفوعة عاليًا عند أسوار المدينة، فتحصل أعجوبة ما ويهرب الأعداء. وفيما يلي ما كتبته إجيريا عن الموضوع:
...وبعد مغادرتنا بطانيس، بلغنا باسم يسوع المسيح ربّنا، الرّها1. وحال وصولنا توجّهنا إلى كنيسة القدّيس توما وضريحه...
وإنّ أسقف المدينة، وهو رجل تقيّ للغاية، راهب ومعترف، إستقبلني بمودّة... واقتادني أولاً إلى قصر الملك الأبجر حيث أراني تمثالاً أصليًّا للملك، كثير الشبه به، على ما يُقال. إنّه من مرمر برّاق كأنّه من لؤلؤ. وكان يُرى على وجه الملك الأبجر، عند التطلّع إليه، أنّه رجل حكيم حقًّا وممتلئٌ نبلاً. فبادرني الأسقف القدّيس قائلاً: «هوذا الملك الأبجر الذي، قبل أن يرى الربّ، آمن أنّه حقًّا إبن الله». وإلى جانب تمثال الأبجر، ينتصب تمثال آخر، مصنوع من المرمر نفسه، قال لي إنّه تمثال «معنو»، إبن الأبجر، وهو أيضًا كان وجهه يتّسم بأمارات البشاشة.
ثمّ دخلنا القصر، وكانت هناك بحرات ماء تعجّ بالسمك، ممّا لم أرَ لها مثيلاً لعظمتها وصفاء مياهها ولذيذ طعمها. وليس للمدينة مياه غير تلك التي تنبع من القصر، وكأنّها نهر من الفضّة.
فروى لي الأسقف قصّة هذه الماء، قال: كان ذلك بُعيد ما كتب الملك الأبجر إلى السيّد، وردّ السيّد على الأبجر، بواسطة حنانيا، على ما ورد في الرسالة. إذن بعد ذلك بقليل، وصل الفرس بغتة وحاصروا المدينة.
وللحال، حمل الملك الأبجر رسالة السيّد إلى باب المدينة، برفقة جيشه كلّه، ورفع إلى الله صلاة جماعيّة، ثمّ قال: «أيّها الربّ يسوع، لقد وعدتنا أن لن يدخل عدوٌّ مدينتنا، وهوذا الآن الفرس يهاجموننا». قال هذا ورفع الرسالة المفتوحة عاليًا بين يديه، فحدث فجأة ظلام كثيف، ولكن خارج المدينة، فخيّم على الفرس الذين كانوا قد اقتربوا جدًّا من المدينة، فلم يكونوا إلاّ على بعد ثلاثة أميال، فأربكهم الظلام حتّى إنّهم لم يستطيعوا أن يركّزوا معسكرهم ويحاصروا المدينة إلاّ عند الميل الثالث.
وبلغ الارتباك عند الفرس حدًّا، حتّى إنّهم لم يروا أبدًا من أيّ جهة يدخلون المدينة. غير أنّهم ظلّوا يحاصرونها، يحيط بها العسكر عند الميل الثالث، وذلك لشهور عدّة.
وفي ما بعد، لمّا رأوا أنّهم لن يستطيعوا بأيّة حيلة دخول المدينة، قرّروا إهلاك من فيها عطشًا. إذن، يا ابنتي، هذه الرابية التي ترين، المشرفة على المدينة، هي التي كانت، في تلك الأيّام، تزوّد المدينة بالماء. فلمّا رأى الفرس ذلك، حوّلوا هذه الماء عن المدينة إلى الموضع القائم فيه معسكرهم.
إذاك، في اليوم والساعة اللتين حوّل فيهما الفرس الماء، تفجّرت على الفور، دفعةً واحدة، بأمر الله، هذه الينابيع التي ترين في هذا المكان. ومنذ ذلك اليوم حتّى الآن، لا تزال هذه الينابيع تتدفق هنا، بأمر الله. أمّا المياه التي حوّلها الفرس، فلقد نضبت في الحال، حتّى إنّهم لم يستطيعوا أن يرووا، ليوم واحد، الجنود الذين كانوا يحاصرون الماء، على ما يُشاهد اليوم أيضًا، لأنّه منذ ذلك الحين إلى اليوم لم يُرَ في ذلك المكان أيّ أثر للمياه.
حينئذ، حسب مشيئة الله الذي سبق ووعد بما كان، اضطُرَّ الفرس إلى الرجوع حالاً إلى ديارهم، أي إلى بلاد فارس. وفي ما بعد، كلّ مرّة أراد أعداء أن يهاجموا مدينتنا، كان يؤتى بالرسالة لتتلى على باب المدينة. وفي الحال، وفقًا لمشيئة الله، دُحر كلّ الأعداء...
بعد أن أخبرني الأسقف القدّيس هذا كلّه، بادرني قائلاً: «لنذهبنّ الآن إلى الباب الذي ولجه الساعي حنانيا، حاملاً الرسالة التي ذكرت». لدى بلوغنا الباب، تلا الأسقف وقوفًا صلاةً ثمّ قرأ علينا الرسالتين، وبعد أن باركنا، تلا صلاة أخرى.
ثمّ أطلعنا الأسقف القدّيس على أنّه منذ اليوم الذي دخل فيه الساعي حنانيا بهذا الباب، حاملاً رسالة السيّد الربّ حتّى الآن، والباب يُحرس منعًا من أن يمرّ به إنسان نجس أو محزون، أو أن يجتازه جثمان ميت.
وأرانا الأسقف القدّيس أيضًا ضريح الأبجر وكلّ أفراد أسرته. إنّه جميل جدًّا، ولكنّه على الطريقة القديمة. ثمّ اقتادنا إلى القصر الأعلى الذي سكنه الأبجر قبلاً، وأرانا الأماكن الأخرى الواجبة رؤيتها.
وما سرّني بالأكثر هو أنّ الأسقف القدّيس قدّم لي الرسالتين اللتين تبادلهما الأبجر والسيّد الربّ، واللتين تلاهما علينا هناك. ومع أنّي أملك في وطني نسخًا عنهما، فلقد أحببتُ أن آخذ ما قدّم لي، خوفًا من أن يكون النصّ الذي بلغنا في وطننا ناقصًا، لأنّ النصّ الذي تسلّمته هو حقًّا أكمل. وإذا سمح يسوع ربّنا بأن أعود إلى وطننا، فستقرأن هذا النصّ أنتنّ أيضًا، سيّداتي الحبيبات.
* هي من السيّدات الإسبانيّات الورعات الأغنياء، نظرًا للتكاليف الباهظة التي تكبدتها من أجل القيام برحلة إلى الأماكن المقدّسة امتدت من العام 381 حتّى العام 384، يرافقها فيها عدد لا بأس به من الأصدقاء والخدّام؛ ومنهم من قال بأنّها تنتمي إلى إحدى الرهبانيّات النسائيّة، نظرًا لمعرفتها عادات الرهبان وأساليبهم، وصلواتهم وليتورجيتهم. زارت الرّها في 19 نيسان العام 384 ومكثت فيها ثلاثة أيّام، حيث اطلعت على قصّة أبجر وملابساتها، ننقلها هنا عن كتاب: إيجيريا، يوميّات رحلة، نقلها إلى العربيّة الأب نعمة الله الحلو، الراهب اللبناني، ودقّق فيها ونسّقها وعلّق عليها الأب جورج باليكي البولسي، منشورات مجلس كنائس الشرق الأوسط، الطبعة الأولى، 1994، صفحة 58 - 63.
1 الرّها وإديسّا وأورفا هي ثلاثة أسماء مختلفة لمدينة واحدة، عرفها السريان باسم إديسّا، وهي التسمية الأقدم، ثمّ أطلق عليها العرب اسم الرّها، وهي الآن معروفة باسمها التركي سانلي أورفا، كونها واقعة ضمن حدود دولة تركيا.