ما هو كفن المسيح؟
من بين أشدّ الأمور غموضًا في عالمنا، كفن المسيح المحفوظ في مدينة تورينو- إيطاليا، الذي يدعو إلى العجب والحيرة، وقد شغل بال العديد من العلماء، وما زال يحتلّ قسطًا وافرًا من وقتهم وأبحاثهم. وأغرب ما في الأمر، بقاء هذا الكفن سالمًا من الفساد والاهتراء، بالرغم من مرور حوالي ألفي سنة عليه، بحسب تقدير العلماء، ما أدّى إلى ازدياد الاهتمام بشأنه، لا سيّما عند أبناء تورينو، الذين يعتبرونه ذخيرة ثمينة يتناقلونها كالإرث، ويحرصون على حمايته كحدقة العين. هذا بالإضافة إلى الوفود التي، على مرّ العصور، قَدمت بدافع الإيمان والتقوى أحيانًا، وبدافع الحشرية العلميّة وحبّ المعرفة والاكتشاف، أحيانًا أخرى، لمشاهدة الذخيرة الأكبر قيمة في الكنيسة الكاثوليكيّة.
أمّا أهميّة هذا الكفن، فتعود إلى الآثار التي تبدو عليه، وهي تُشير إلى أنّه استُعمل لتكفين جثمان رجل تَعرَّض لآلام مبرّحة: جُلد جسمه، وكُلّل رأسه بالشوك، وصُلب تعليقًا بالمسامير، وطُعن بحربة في جنبه، علاوةً على كدمات وجراح ونزف دمويّ هائل، ساهم في حصول الوفاة.
تعريف السندونولوجيا
كان لا بدّ من إيجاد كلمة واحدة للدلالة على الاختصاصات المتنوعة التي استعان بها العلماء لدراسة كفن المسيح. إنّ الراهب السالسي بياترو سكوتي Don Pietro Scotti s.d.b ، الأستاذ في جامعة جَنوى - إيطاليا، هو الذي أطلق الكلمة المنتظرة، في مقالة له، صدرت العام 1976، جاء فيها:
«إنّ دراسة الكفن غير ممكنة من دون العودة إلى نظرة شاملة لجميع الموادّ العلميّة المتعلّقة به. لذلك اقترحتُ، على أثر مؤتمر تورينو، الذي انعقد العام 1939، كلمة "سندونولوجيا" للدلالة على العلم الحديث الذي يجمع الاختصاصات المتنوعة في دراسة الكفن ويؤلّف بينها»1.
والكلمة سندونولوجيا متأتية من اللغة اليونانية ومركّبة من كلمتين: سندون Sindon وهي الكلمة التي استُعملت في الإنجيل للدلالة على الكفن، ولوغوس logos أي عِلم أو دراسة. في هذا السياق أُطلق على عالِم الكفن تسمية سندونولوغ sindonologue بالفرنسيّة أو sindonologist بالإنكليزيّة. وأصبح هذا التعبير مقبولاً ومعتمدًا من الجميع.
لقد قيل إنّ كلمة سندون Sindon متأتية من سيدون Sidon نسبة إلى مدينة صيدا اللبنانية، حيث يُمكن أن يكون الكفن قد حيك على النول، كما جاء على لسان عالِم الآثار موريس بييه Maurice Pillet حين رأى صورًا لكفن المسيح إذ قال:
«لم تُحَك هذه القماشة في أورشليم، لقد صُنعت في منطقة صيدا». ولكن، حين قيل له بأنّه استنتج ذلك بسبب التسمية اليونانية للكفن، قال: «لم أنتبه إلى هذا الأمر أبدًا. إنّ رؤية القماشة فقط أودى بي إلى هذا الاستنتاج».
والمعروف عن العالِم المذكور أنّه من كبار الاختصاصيين في الأقمشة القديمة، وهو مَن قام بالتنقيبات الأولى في دورا أوروبّس (الصالحيّة - سوريا)، وعمل حافظًا في الكرنك والأقصر في مصر2.
ولا غرابة في اعتماد هذه الطريقة لتحليل اشتقاق كلمة سندون، إذ أنّ هناك أمثلة عديدة مشابهة: قماشة تول Tulle نسبة إلى مدينة تول في فرنسا؛ وقماشة موسلين Mousseline نسبة إلى مدينة الموصل في العراق؛ وقماشة دمسكوس Damascus نسبة إلى مدينة دمشق في سوريا.
كفن أم منديل؟
أُطلقت على الكفن، في الماضي، تسمية «المنديل المقدّس» le Saint Suaire . لكنّ هذه التسمية ليست دقيقة، ولا تُستعمل اليوم بين الاختصاصيين، كَون كلمة suaire تعني قطعة من القماش بقياس المنديل، تُستعمَل لمسح العرَق sueur عن الوجه أو الجبين، في حين أنّ ما في تورينو هو قطعة من القماش أكبر بكثير، استُعملت للفّ انسان ميت.
يُخبرنا إنجيل مرقس (16 : 1-8) أنّ بعض النسوة، حاملات الطيب، أَتين القبر يوم الأحد لإكمال ترتيبات الدفن، ولكنّهنّ رأين الحجر قد أُزيل عن القبر، فأسرعن يخبرن الرّسل بالأمر. ركض بطرس ويوحنا إلى القبر، فدخل بطرس أولاً، و«أَبصر اللفائف ممدودة، والمنديل الذي كان حول رأسه غير ممدود مع اللفائف، بل على شكل طوقٍ خلافًا لها، وكان كلّ ذلك في مكانه» (يوحنا 20 : 6-7)
من هنا، يتوجَّب علينا التمييز بين اللفائف والمنديل. فالمقصود باللفائف شيئان:
- الكفن، وهو قطعة مستطيلة من الكتّان، يُمدَّد عليها الجثمان، وتكفي لترتدّ عليه وتغطّيه كليًّا.
- الرباطات أو العصائب، وهي قطع من القماش، قليلة العرض، تُستعمل لربط اليدين والقدمين، ولربط الكفن حول الجثمان، عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد.
أمّا المنديل، فهو قطعة صغيرة من القماش، كان يلقيها بعضهم على وجه الميت، لِسَتر العيون وامتصاص العَرَق؛ وبعضهم الآخر، كان يربطها حول الرأس كي يشدّ الفكَّين ويمنعهما من الارتخاء mentonnière ، فلا يبقى فم الميت مفتوحًا؛ ومنهم مَن قال أنّه استُعمل بشكل قناع cagoule .
في كلّ الأحوال، لا يوجد أيّة علاقة بين هذا المنديل الوارد ذكره في الإنجيل، و«منديل ڤيرونيكا» الوارد ذكره في المرحلة السادسة من صلاة درب الصليب. ولا يوجد في إنجيل الآلام أي ذكر للقدّيسة ڤيرونيكا، ولا للفعل التي قامت به بمسح وجه يسوع السالك درب الجلجلة.
تكفين الميت أم لفّه كالمومياء؟
غالبًا ما يظنّ الناس أنّ رجل الكفن قد لُفَّ جثمانه على طريقة المومياء، التي مارسها المصريّون، قديمًا، في دفن موتاهم، وهي تفترض تحنيطًا مسبقًا، أي تجويف الجثمان لنزع الأحشاء منه، وحقنه بالمواد الحافظة، ثمّ لفّه برباطات عديدة، قليلة العرض، من قمّة الرأس حتّى أخمص القدمين. غير أنّ الآثار البادية على الكفن، موضوع بحثنا، لا تُشير إلى إمكانيّة تحنيط الجثمان قبل وضعه فيه، بالإضافة إلى الفرق الشاسع، في الشكل والمقاييس، بين الكفن والرباطات.
لم يستعمل اليهود طريقة المومياء، الشائعة لدى المصريين، في دفن موتاهم، إلاّ في حالة اثنين من الآباء اللذين ماتا في مصر، فحنّطوهما ووضعوهما في تابوت، وهما:
- يعقوب أو إسرائيل، إبن اسحق، إبن ابراهيم: «أَمر خدّامه الأطباء أن يحنّطوا أباه، فحنّط الأطباء إسرائيل» (تكوين 50 : 2).
- يوسف، إبن يعقوب: «مات يوسف وهو ابن مئةٍ وعشرِ سنين. فحنّطوه وجُعل في تابوت بمصر» (تكوين 50 : 26).
أمّا طريقة اليهود في دفن موتاهم، التي كانت شائعة أيّام المسيح، فكانت تبدأ بغسيل الجسم (أعمال 9 : 37)، يليه تلبيس الميت ثيابه، ثمّ نقله إلى محملٍ حيث يودع القبر. وفي الإنجيل مجموعة من الروايات توحي لنا بهذه الترتيبات: إحياء لِعازر (يوحنا 11 : 44)، إحياء إبن أرملة نائين (لوقا 7 : 14 – 15)، بطرس يشفي مقعدًا في اللدّ (أعمال 9 : 34)، بطرس يُحيي طابيتة في يافا (أعمال 9 : 40 – 41).
في حالة المسيح الميت على الصليب، إستعمل اليهود طريقة تكفين خاصّة وموقتة، نظرًا إلى عدم وجود الوقت الكافي لإجراء مراسم الدفن العادية والكاملة، مع اقتراب يوم السبت، الذي كان يمتنع فيه اليهود عن القيام بأيّ عمل يدويّ، أو الانتقال من مكان إلى آخر، ولو لبضعة أمتار. يبدأ مفعول المنع مساء الجمعة، مع مغيب الشمس وبدء تلألأ النجوم، ويستمرّ طوال اليوم التالي. هذا بالإضافة إلى أمر الشريعة بأن «لا تَبِت جثّته على الشجرة، بل في ذلك اليوم تدفنه» (تثنية الاشتراع 21 : 23). لذلك، نرى النسوة يبكرن إلى القبر يوم الأحد لإكمال ترتيبات الدفن، من غسيل الجسم والدهن بالطيوب، التي لم يستطعن القيام بها يوم الجمعة مساءً.
تحديث آذار ٢٠٢٣
1 Shroud Spectrum, No. 2, March 1982
2 Antoine Legrand, Le Linceul de Turin, Desclée de Brouwer, 1980, p. 78