قال الشيخ الأمام العلامة شهاب الدين أبو شامة رحمه الله:
اتفق في سادس عشر شهر ربيع الأوّل من سنة خمس وأربعين وستماية1 أنّه صُلب مملوك تركي، صبي بالغ، كان لبعض أمراء الصالحيّة النجميّة2، ذَكروا أنّه قَتل سيّده لأمرٍ ما، فصُلب على حافّة نهر بَرَدى، تحت القلعة بالشام المحروسة، وجُعل وجهه مقابل الشرق، وسُمِّرت يداه وعضداه ورجلاه، وبقي من ظهر الجمعة إلى ظهر يوم الأحد، ثمّ مات. وكان يُوصَف بشجاعة وشهامة ودين، وأنّه غزا مع سيّده عسقَلان، وقَتل جماعة من الفرنج، وقَتل أسدًا على صغر سنّه، وتَمَّ له في تسميره عجايب: فمنها أنّه جاد بنفسه للصلب، غير ممتنع ولا جازع، بل مَدَّ يداه فسُمِّرتا، ثم سُمِّرت رجلاه، وهو ينظر ولا يتأوّه، ولم يتغيّر وجهه، ولا حرّك شيئًا من أعضائه.
أخبرني مَن شاهد ذلك منه، وبقي إلى أن مات صابرًا ساكتًا، لم يتأوّه، ولم يَشتكِ، ولم يزد على نظره إلى رجليه وجانبيه، يمينًا وشمالاً، وتارة ينظر إلى الناس، بل أنّه استسقي ماء فلم يستق، وتألَّمَت قلوب الناس رحمة له، وشفقة على خلق الله تعالى، مِن أنّه صبيّ صغير، وقد ابتلى بمثل هذا البلا. والحال أنّ المياه تخرق حواليه وهو ينظر إليها، ويَتحسَّر على قطرة منها، وهو صابر على ذلك، سبحان مَن له الأمر والحكم. وري له منامات صالحة، وتَغشّاه نور قبل موته. وكان يَشكو العطش في أوّل يوم، ثم سكن ذلك، وقَوّاه الله تعالى وصبّره وثبّته.
وأخبرني مَن سمعه يقول في اليوم الثاني، سُقيت البارحة ما أَذهب عنّي العطش. ثمّ لم يطلب الماء إلى أن مات صبرًا، وصار يبصق بصقة ريّان الكبد، ويَحدف بها بعيدًا. ولقد رأيته وأنا مارٌّ إلى المدرسة الحساميّة ساعة إنزاله عن الخشب، قد تَغيَّرت محاسنه، وكَثُرَ البكاء والترحّم عليه، ولعلّه كان شهيدًا رحمه الله، لأنّه دافع عن نفسه أمرًا لم يرض وقوعه به، والله يَغفر لنا أجمعين.
وأُخبِرت أنّ بعض المتوكلين سأله ثاني يوم عن حاله، فقال طيب مع الله. وبَلَغني أنّه لمّا سُمّر لم يُسمع منه سوى كلمة واحدة، وذلك أنّ الذي سَمَّره، لمّا وَضَعَ المسمار في العضد، صادف العظم، فقال له: يا فتى تَجنَّب العظم. والذي سَمَّره مات في ذلك اليوم. فأُخبِر الصبي بذلك، فقال وهو في تلك الشدّة: هو في حلّ، لا ذنب له، إنّما هو عبدٌ مأمور.
وكان، رحمه الله، من أجمل الصبيان، وأحسنهم وجهًا، وأطولهم شعرًا، وكان ثمنه ألوفًا كثيرة من الدراهم. وكان، في حال صلبه، مكشوف الرأس، والروابي من شعره مسترسلة خلفه، فلعبت بها الرياح، فأدارتها إلى صدره، فبقي يتناولها بفمه، ويلعب بها، ويفتش عنها بالعبث بها.
وبَلَغَني ممن أثق به أنّه ذو أبيّة وقوّة شديدة. أَخبَرَني جماعة أنّه كان يحرّك رِجليه وهما مسمَّرتان، فلم يزل يولع بتحريكهما إلى أنْ اتَّسع بخش المسامير. ولولا شدّة تعلّق المسامير بالخشب لقلعها البتّة.
ومما قيل فيه، رحمه الله:
ومنفرد من فوق أعواد حَتفه يجود بنفس صانها خوف ربّه
بكيتُ على بادي المَلاحة باسط اليدين كمن يبغي عناق محبّه
ومصطفة أقدامه شبه قايم مصل باحبابه مطيع لربّه
تَسمَّرت الاعضا منه فلم يطق سجودًا فأومأ بالسجود بقلبه
تَمكَّنَت الآلام منه مسمَّرًا فكان الموت أيسر خطبه
يرى واحدًا والناس حول جدعه وعطشان والأمواه تجري بجنبه
فيا حسرة منه على شرب قطرة لقد طاب ديّاك الشراب بلبه
وعريان إلا في غلاله حسنه ومكشوف رأس ساتر كمر ربّه
تجول رياح الجوّ فيه وتعطف الـ سواقي عليه كلّ ترب بقربه
وتشرق شمس الصيف في حرّ وجهه لقد زال ذاك الحسن مذ أشرقت به
فيا لك ممنوعًا من الماء شِربُهُ تَفتَّتت الأكباد من عظم كربه
ويا لك مصلوبًا يتكلّم وقسوة تقطَّعت الاحشا من سوء صلبه
فيا عجبًا ممن أشار بصلبه ألا فاعجبن جدًّا قساوة قلبه
صبيّ صغير فايق الحسن ناسك شجاع له الاقدام في يوم خربه
صبور على هذي الشدائد كلّها إلى أن أتاه الموت قاض لِنَحبه
* نقلاً عن المخطوط الموجود في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت تحت الرقم Mic-Ms, AUB 1010 وعنوانه «المرج النضر واللأَرَج العطر»، والمؤلّف من 578 صفحة، قاعدة الخطّ فارسي، نسخ 1481 م. أضفنا بعض الفواصل والتشكيلات تسهيلاً للقراءة. والمؤلّف هو صلاح الدين السيوطي ١٤٥٢ م (هو غير جلال الدين السيوطي الشهير ١٤٤٥-١٥٠٥).
1 الموافق 1247 م
2 نسبة إلى السلطان الصالح نجم الدين أيوب (1240-1249) الذي جلب المماليك الصغار، يربّيهم عنده، ويدربهم، ويصبح ولاءهم خالصًا إليه، بدلاً من المرتزقة الكبار، الذين تتبدل ولاءاتهم حسب الظروف، فبنى لهم معسكرًا وأبراج، وجعل لهم نظام معيشة وتدريب معيّن، فأحبّوه وأخلصوا له، وتلقبوا بلقبه، فكان يقال عنهم «المماليك الصالحيّة النجميّة» وإذا عظم نفوذهم وعلا شأنهم صاروا «أمراء الصالحيّة النجميّة».