هو جوزف راتزنغر. وُلد في ألمانيا، يوم سبت النور، في 16 نيسان 1927. درس الفلسفة واللاهوت في معهد فرايتزيغ العالي، وفي جامعة ميونيخ. رُسم كاهنًا في 29 حزيران 1951. وفي العام 1953 حصل على شهادة الدكتوراه في اللاهوت، فتولّى تدريس مادة اللاهوت العقائدي واللاهوت الأساسي في المعهد العالي للفلسفة واللاهوت في فرايتزيغ، ثمّ في جامعات بون ومونستر وتوبينغين.
في 25 آذار 1977، عيّنه البابا بولس السادس رئيس أساقفة على ميونيخ وفرايتزيغ، واحتفل بسيامته الأسقفية في 28 أيار من السنة ذاتها.
في 27 حزيران 1977، عيّنه البابا بولس السادس كردينالاً، وفي 25 تشرين الثاني 1981 عيّنه البابا يوحنا بولس الثاني رئيسًا لمجمع العقيدة والإيمان.
تولّى الكردينال راتزنغر مهام عدّة داخل الكوريا الرومانية، فكان رئيسًا للجنة البيبلية البابوية، واللجنة اللاهوتيّة الدوليّة، وترأس أيضًا اللجنة التي أعّدت التعليم الديني في الكنيسة الكاثوليكية والتي قدّمت ثمرة أعمالها للأب الأقدس بعد 6 سنوات من العمل المتواصل.
في 19 نيسان 2005، إنتخب حبرًا أعظم، خلفًا للطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني. بعد ثماني سنوات أمضاها في خدمة الكنيسة وإدارتها، أعلن فجأة عن إرادته في الاستقالة، بدافع التقدّم في السنّ، فتخلّى عن مركزه في 28 شباط العام 2013 مبديًا رغبته في تمضية بقيّة أيّام حياته في الصلاة من أجل الكنيسة، متخذًا له بيتًا متواضعًا في الفاتيكان.
للبابا بنديكتُس مؤلّفات عدّة، واحد بعنوان «يسوع الناصري» مكوّن من ثلاثة أجزاء، صدر الجزء الأوّل منه عن حياة وتعليم الربّ يسوع في العام 2007، والجزء الثاني منه عن أسبوع الآلام في السنة نفسها، والجزء الثالث منه عن طفولة الربّ يسوع في العام 2012. وفي الجزء الثاني، تكلّم البابا عن كفن تورينو وقال عنه بأنّه «ذخيرة» ما استدعى ردود فعل مختلفة، منها الموافقة على هذه الصفة ومنها المعارضة لها، لأنّ العلم لم يحسم أمره بعد بشأن الكفن وإذا كان يعود فعلاً إلى الرب يسوع. وبعد فترة من الأخذ والردّ، ارتأى المونسينيور جيوسيبي غيبارتي، رئيس اللجنة الأبرشيّة للمحافظة على الكفن، تقديم التوضيح التالي1، في 11 آذار 2011 ، وقال:
في الجزء الثاني من كتابه «يسوع الناصري»، وفي سياق حديثه عن دفن يسوع، يذكر البابا الأقمشة التي استعملت في هذه المناسبة، بحسب روايات الأناجيل الأربعة. وبعد أن لفت الإنتباه الى الفرق الواضح في المفردات بين الأناجيل الإزائيّة الثلاثة (التي تتكلم عن «كفن») وإنجيل يوحنا (الذي يتكلم عن «لفائف») أضاف: «إنّ مسألة التطابق مع كفن تورينو لا يجب ان تشغل بالنا هنا؛ في كلّ الأحوال، إنّ ما أتوقعه من ذخيرة كهذه، يتوافق، من حيث المبدأ، مع ما جاء في هذين النصّين.»
إنّ إشارة البابا إلى الكفن بقوله إنّه «ذخيرة»، ولّد الحيرة في عقول البعض، وبدأوا يتساءلون عن النيّة الكامنة وراء استعمال هذه العبارة. ويجب هنا التذكير بأنّ النصّ الذي نحن بصدده هو نصّ مترجم، لكنّنا قمنا بالتحقق مع بعض المترجمين، فتبيّن لنا بأنّ الكلمة التي جاءت في الأصل الألماني تتطابق تمامًا مع العبارة المترجمة.
لكي نتمكن من متابعة فكرة الكاتب ونيّته، علينا التوقّف عند السياق المحدود الذي استعملت فيه هذه العبارة. فالبابا يتحدث عن دفن يسوع، بالتحديد، فيتذكّر طريقة استعمال القماشات، عارضًا ما تقوله الأناجيل، في وصفين مختلفين، ومصطلحين مختلفين. تعود بنا الذاكرة، عند هذه النقطة بالذات، إلى واقع ملموس، أعني به الكفن الموجود في تورينو، الذي له علاقة بهذه الاقمشة. ولكن ما هي هذه العلاقة؟
لا يريد البابا طرح التساؤلات حول هذه العلاقة، ولا يجب إعطاء الأولويّة للنقاش حول مسألة الكفن، لأنّ البابا تخطّى هذا الموضوع، ولا يركّز عليه. ما يهمّه هو القول بأنّ ليس هناك أيّ تناقض بين كفن تورينو، وحقيقة وجوده، من جهة، ومن جهة أخرى، الوصف الوارد في النصوص الإنجيليّة (سواء تكلمت عن «كفن» أو عن «لفائف»)؛ كما لا يمكن الاستنتاج، جراء هذا الوصف، أنّ ما تقوله الأناجيل عن دفن المسيح ينفي وجود الكفن، وجودًا حقيقيًّا.
يمكن للقارئ، عند هذه النقطة، أن يفكّر في أمور كثيرة، بخاصّة في قناعة البابا بشأن الكفن، ويمكنه أن يكوّن لديه انطباعًا بأنّ البابا هو من مؤيّدي الكفن. وهذا صحيح، إلاّ أنّ هذا الإجتهاد لا يمكن أن يكون نهائيًّا.
بعد أن وضعنا المسألة في هذا الإطار، نعود إلى عبارة «ذخيرة»، ويبدو لي واضحًا، إذا ما وضعنا جانبًا مسألة أصالة الكفن، أنّ هذه العبارة تستعمل تقنيًا للدلالة على شيء ما كان يخصّ شخصًا معينًا، أو كان من ضمن الأغراض التي استعملها، أو لامس جسمه مباشرة. وهناك معنى آخر لكلمة ذخيرة، أكثر شمولاً من المعنى الاول، ينطبق على شيء له علاقة مميّزة بشخص معيّن، بسبب احتوائه على بعض العناصر التي تذكر بهذا الشخص، بشكل فعّال؛ وهذا هو المعنى الذي ينطبق على حديث البابا، أكثر من غيره من المعاني.
يمكن القول إنّ هذا التعبير هو الأقلّ تطلبًا بين كل التعابير الأخرى التي كان يمكن للبابا استعمالها. ففي التأملّ الذي قام به أمام الكفن، أثناء حجّه إلى تورينو، في ۲ ايار الماضي، إستعمل البابا عبارة «أيقونة»، واصفًا الكفن بـ «أيقونة سبت النور». وفي هذا السياق، يدلّ هذا الوصف، في الوقت نفسه، على مشهد غير مادي، وحضور بليغ المعنى، حيث النداء العميق إلى السرّ الحيّ العامل في تاريخ البشر أجمعين، ولم يزل.
إنّ الكلام الذي انتقاه البابا في كتابه يعبّر، بشكل أكيد، عن اعتقاده بأنّ النصوص الإنجيليّة المتعلّقة بدفن يسوع ليست، من الناحية الفيلولوجية، عائقًا أمام فرضيّة «أصالة» الكفن. والأكيد هو أنّه غير مطلوب من هذه النصوص تبيان «قيمة مضافة» للكفن، لأنّ إيماننا لن يتأثر باي تسمية نطلقها على الكفن، أكانت أيقونة أم ذخيرة: إنّ الكفن ليس يسوع، إنّه بالأحرى علامة بالغة الفعاليّة لحبّه لنا، وسرّ فدائه؛ إنّه ليس موضوعًا إيمانيًا بقدر ما هو عنصر مساعد استثنائيّ للتعمّق في واقع يسوع.
وبمناسبة العرض العلني للكفن في تورينو الذي بدأ في 10 نيسان 2010 وانتهى في 23 أيار، قام البابا بنديكتُس السادس عشر بزيارة راعويّة إلى المدينة، الأحد الواقع فيه 2 أيار، حيث احتفل بالذبيحة الإلهيّة في ساحة «سان كارلو» (القدّيس شارل)، قبل الظهر؛ وكان له لقاء مع الشبيبة، في الساحة ذاتها، بعد الظهر؛ ثمّ انتقل مساءً إلى كاتدرائية القدّيس يوحنا المعمدان، حيث سجد للربّ يسوع في القربان الأقدس، وصلّى أمام الكفن المقدّس؛ وختم يومه الطويل في المدينة بلقاء حارّ مع المرضى والفقراء والمهمشين، في كنيسة الدار الصغيرة للعناية الإلهيّة (مجمع القدّيس جوزيف كوتولينغو). وفي ما يلي مقتطفات من الكلمات التي ألقاها البابا أثناء هذه الزيارة:
- «فيه (الكفن) نرى، كما في مرآة، آلامنا في آلام المسيح: "آلام المسيح، آلام البشر". ولهذا السبب بالذات، يكون الكفن علامة رجاء: واجه المسيح الصليب ليضع حدًّا للشرّ؛ وليجعلنا نلمح، من خلال فصحه، استباقًا لتلك اللحظة التي فيها سوف تُمسح كلّ دمعة من عيوننا، ولن يكون بعد موت ولا بكاء ولا صراخ ولا ألم.»
- «يمكننا القول بأنّ الكفن هو أيقونة... السبت العظيم... يقدّم لنا كفن تورينو صورة جسده (يسوع) الممدّد في القبر، أثناء تلك الفترة، التي كانت قصيرة (حوالي اليوم والنصف)، ولكنّها كبيرة ولامتناهية في قيمتها ومعناها.»
- «إذ ننظر إلى هذا الكفن المقدّس بعيون الإيمان، نرى شيئًا من هذا النور. بالواقع، أٌغرِق الكفن في تلك الظلمة الدامسة، لكنّه، في الوقت عينه، هو منير؛ وأعتقد أنّه عندما يأتى آلاف وآلاف الأشخاص لتكريمه، من دون إهمال الذين يتأملون به من خلال الصور، فما ذلك إلاّ لأنّهم لا يرون فيه الظلمة فقط، بل النور أيضًا؛ لا فشل الحياة والحبّ فحسب، بل الانتصار، إنتصار الحياة على الموت، والحبّ على البغض؛ إنّهم يعاينون موت يسوع، ولكنّهم يستشفّون قيامته أيضًا ؛ تنبض الحياة في حضن الموت، لأنّ الحبّ جعل من الموت موطنًا له.»
- «هذا هو سلطان الكفن: إنّ وجه "رجل الأوجاع" هذا، الذي يحمل على عاتقه آلام الإنسان، في كلّ زمان ومكان، وآلامنا، ومصاعبنا، وآثامنا، "آلام المسيح، آلام الإنسان"، يشعّ وقار مهيب، وسلطان حافل بالمفارقة. هذا الوجه، وهاتين اليدين، وهاتين الرجلين، وهذا الجنب، وكلّ هذا الجسد، إنما يتكلّم جهارًا، هو بذاته كلمة نصغي إليها في جوّ من الصمت.»
- «ماذا يقول لنا الكفن المقدّس؟ إنّه يكلّمنا من خلال الدم، والدم هو الحياة! الكفن هو أيقونة مكتوبة بالدم؛ دم إنسان جُلد، وكُلّل بالشوك، وصُلب، وطُعن جنبه الأيمن. صحيح أنّ الصورة المطبوعة على الكفن هي صورة ميت، ولكن الدم يتحدث عن الحياة التي فيه. كلّ وصمة من دمه تحدّثنا عن الحبّ والحياة، بخاصّة تلك الوصمة الغضّة في جنبه، المؤلّفة من دم وماء، خرجا بغزارة من جرح كبير تسبّبت به طعنة الحربة الرومانية: هذا الدم و هذا الماء يتحدثان عن الحياة، هما مثل ينبوع يخرّ صامتًا، ونحن نسمعه، ونصغي إليه، في سكون السبت العظيم.»
وفي يوم الأربعاء الواقع فيه 5 أيار 2010، وبعد زيارة تورينو، أثناء المقابلة العامّة التي حضرها أكثر من ثلاثين ألف زائر، وفي إطار تعليم الأربعاء المعتاد، أشار بنديكتُس السادس عشر إلى زيارته الكفن المقدّس، وقال: «باستطاعة هذا الكفن المقدّس أن يغذّي إيماننا، ويقوّي التقوى المسيحيّة، لأنّه يحثّنا على الذهاب نحو وجه المسيح، ونحو جسده المصلوب، والقائم من بين الأموات، والتأمّل بالسرّ الفصحيّ، محور الرسالة المسيحيّة».
وفي ما يلي النصوص الكاملة لما قاله البابا في زيارته التاريخيّة إلى تورينو:
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
يسعدني أن أكون معكم في هذا العيد، وأن أقيم قدّاسًا احتفاليًا خاصًّا بكم. أحيّي كلّ فرد منكم حاضر ههنا، وبخاصّة راعي أبرشيتكم، الكردينال سيفيرينو بوليتو، وأشكره على الكلمات الحارّة التي وجّهها إليّ باسمكم؛ كما أحيّي رؤساء الأساقفة والأساقفة الحاضرين، والكهنة والرهبان والراهبات، وممثلي الجمعيّات والحركات الكنسيّة. أتوجّه باحترام إلى عمدة المدينة، السيّد سرجيو كيامبارينو، شاكرًا إيّاه على كلمته المهذّبة؛ وبشكر خاصّ إلى ممثل الحكومة، والسلطات المدنيّة والعسكريّة، وجميع الذين ساهموا بسخاء في التحضير لزيارتي الراعويّة هذه. أتوجّه بتفكيري أيضًا إلى جميع الذين لم يتمكنّوا من الحضور، وبخاصّة المرضى، والذين هم لوحدهم، والذين يعيشون فترة صعبة في حياتهم. أوكل مدينة تورينو وجميع سكّانها إلى الربّ يسوع، في هذا الاحتفال الافخارستي الذي – وككلّ أحد – يدعونا الى الاشتراك الرعويّ في وليمة مزدوجة، فيها كلمة الحقّ، وخبز الحياة الأبديّة.
نحن في الزمن الفصحي، وهو زمن نمجّد فيه يسوع. يذكّرنا الإنجيل الذي سمعناه للتو بهذا التمجيد الذي تَحقّق بواسطة الآلام. في السرّ الفصحي، ترتبط الآلام بالتمجيد ارتباطًا وثيقًا، ويشكلان معًا وحدة متكاملة. يؤكّد يسوع ويقول: "الآن مُجّد ابن الانسان ومُجّد الله فيه" (يو 13: 31)، وهو يقول ذلك بينما يخرج يهوذا من العليّة لينفّذ مخطط خيانته، الذي سيؤدي إلى موت المعلّم: في ذلك الوقت بالذات، يبدأ تمجيد يسوع. يتكلم يوحنا الإنجيلي عن ذلك بوضوح: في الواقع، هو لا يقول بأنّ يسوع تَمجّد بعد آلامه فقط، بواسطة القيامة، وإنما يُظهر أن التمجيد بدأ، بالتحديد، مع الآلام. في الآلام، يظهر يسوع مجده، مجد المحبّة التي تعطي ذاتها بالكامل. لقد أحبّ الآب، وعمل بمشيئته حتى النهاية، بعطاء الذات الكامل؛ أحبّ البشريّة، واهبًا ذاته لأجلنا. وهكذا فهو يتمجَّد منذ آلامه، ويتمجّد الله فيه. ولكن الآلام – كعلامة حقيقيّة لمحبّته العميقة – هي فقط البداية. ولذلك، يقول يسوع بأنّ تمجيده سيكون أيضًا في المستقبل (راجع الآية 32). والربّ، في الوقت الذي يعلن فيه ذهابه عن هذا العالم (راجع الآية 33)، يترك وصيّة لتلاميذه ليفهموا، بطريقة جديدة، حضوره بينهم: «أعطيكم وصية جديدة: أحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم، أحبوا أنتم أيضًا بعضكم بعضًا» (الآية 34). إذا أحببنا بعضنا بعضًا، يستمرّ يسوع في حضوره بيننا، ويَتمجّد في العالم.
يتحدّث يسوع عن «وصيّة جديدة». ولكن ما هو الجديد فيها؟ لقد سبق وأعطى الله، منذ العهد القديم، وصيّة المحبّة؛ ولكنّ الآن، أصبحت هذه الوصيّة جديدة لأنّ يسوع أضاف عليها شيئًا بالغ الأهميّة: «كما أحببتكم، أحبّوا أنتم أيضًا بعضكم بعضًا». الجديد هو في «أن نحبّ كما أحبّ يسوع». إنّ محبّته تسبق محبّتنا، ومحبّتنا تعود إلى محبّته، وتنخرط فيها، وتتحقّق فيها. لم يقدّم العهد القديم أي نموذج عن المحبّة، بل تكلّم عن مبدأ المحبة فقط. أمّا يسوع، فقد أعطانا ذاته كمثال عن المحبّة ومصدر لها. إنّها محبّة شاملة، ومن دون حدود، وقادرة على تحويل المناسبات السلبيّة، وجميع العقبات، إلى فرص للنموّ في المحبّة. ونحن نرى، في قديسي هذه المدينة، تجسيدًا لهذه المحبّة، انطلاقًا من المصدر الذي هو محبّة يسوع.
إبّان القرون الماضية، عرفت الكنيسة التي في تورينو تقليدًا غنيًا بالقداسة، وبالخدمة السخيّة لإخوتنا، كما ذكّرنا به الكردينال رئيس الأساقفة، والعمدة، وذلك بفضل الأعمال التي قام بها كهنة ورهبان، وراهبات عاملات في العالم، ومتأملات في الأديرة، ومؤمنين علمانيين غيورين. في هذه الحالة، يكون لكلمات يسوع وقع خاصّ على كنيسة تورينو هذه، الفاعلة والسخيّة، بدءًا من كهنتها. لَمّا يعطينا يسوع الوصيّة الجديدة، يطلب منّا أن نعيش محبّته ذاتها، ومن محبّته ذاتها، التي هي العلامة الصادقة والبليغة والفعّالة لإعلان ملكوت الله إلى العالم.
من الواضح أنّنا ضعفاء ومحدودين إذا اتَّكَلنا على قوانا الذاتيّة فقط. نجد، في ذاتنا، مقاومة دائمة لهذه المحبّة، وفي حياتنا الكثير من الصعوبات التي تثير الانقسامات والاستياءات والأحقاد. ولكنّ الربّ وعدنا بأن يكون حاضرًا في حياتنا، وأن يجعلنا أهلاً لهذه المحبة السخيّة الكاملة، التي تعرف التغلّب على كلّ العقبات، بما فيها تلك الموجودة في قلوبنا. إذا كنّا متّحدين بالمسيح، يمكننا أن نحبّ بهذه الطريقة. لا يمكننا حبّ الآخرين، كما أحبّنا يسوع، إلاّ بفضل القوة التي نكتسبها في علاقتنا معه، وبخاصّة في الافخارستيا، حيث يتجسّد حبّه في التضحية التي قام بها، والتي تولّد المحبّة: هذا هو الجديد الذي أتى إلى العالم، والقوّة المتواصلة لتمجيد الله، الذي يتمجّد في استمرارية محبّة يسوع في محبّتنا.
لذلك، أودّ أن أوجّه كلمة تشجيع، بخاصّة إلى الكهنة والشمامسة في هذه الكنيسة، الذين يقومون بعملهم الرعويّ بسخاء، وإلى الرهبان والراهبات. أن نكون فعلة في كرم الربّ هو عمل متعب في بعض الأحيان، إذ تتضاعف الالتزامات، وتتكاثر الطلبات، والمشاكل ليست قليلة: أعرفوا كيف تستقون القوّة اليوميّة من علاقة المحبة مع الله، بواسطة الصلاة، لتحملوا البشرى النبويّة للخلاص؛ أعيدوا تمركز حياتكم على أسس الإنجيل؛ نمّوا بعدًا حقيقيًا للشراكة والأخوّة في ما بينكم، وفي جماعاتكم الكنسيّة، وفي علاقتكم مع شعب الله؛ إشهدوا، بواسطة الخدمة، لقدرة المحبّة النازلة من علُ، من عند الربّ الحاضر بيننا.
تقدّم لنا القراءة الأولى التي سمعناها، على وجه التحديد، هذه الطريقة المميّزة في تمجيد يسوع، وذلك بواسطة الرسالة وثمارها. في ختام رحلتهما الرسوليّة الأولى، يعود بولس وبرنابا إلى المدن التي زاراها، ليشدّدا عزائم التلاميذ، ويحثاهم على الثبات في الإيمان، ويقولان لهم: "يجب علينا أن نجتاز مضايق كثيرة لندخل ملكوت الله" (أعمال 14: 22).
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
ليست الحياة المسيحيّة سهلة ؛ أعرف أنّ هناك صعوبات في تورينو أيضًا، وهناك مشاكل واهتمامات: تذهب أفكاري، بنوع خاصّ، إلى الذين يعيشون في ظروف غير مستقرّة، بسبب نقص العمل، والقلق بشأن المستقبل، والمعاناة الجسديّة والأخلاقيّة؛ وأفكّر بالعائلات، وبالشباب، وبالطاعنين في السنّ الذين غالبًا ما يعيشون في وحدة، وبالمهمشين، وبالمهاجرين.
نعم، تحملنا الحياة على مواجهة الكثير من الصعاب والمشاكل، ولكن يوجد لنا ضمانة في الإيمان، الضمانة بأننا لسنا لوحدنا، وبأن الله يحبّ كل واحد منّا من دون تمييز، وهو قريب بمحبّته من الجميع، هذه المحبّة التي تساعد على مواجهة العبء الناتج عن المشاكل اليوميّة وتخطّيها. إنّ المحبّة الشاملة للمسيح القائم من بين الأموات، هي التي دفعت بالرسل إلى الخروج من تقوقعهم، وإعلان كلمة الله، وخدمة الآخرين من دون مقياس، بشجاعة وفرح وصفاء. يملك القائم من بين الأموات محبّة قويّة تتخطّى كل الحدود، ولا تتوقف أمام أيّ عائق. وعلى الجماعة المسيحية، بخاصّة في التزامها العمل الرعويّ، أن تجسّد محبّة الله هذه.
أحثّ العائلات على عيش البعد المسيحي للمحبّة، في الأعمال اليوميّة البسيطة، وفي العلاقات العائليّة، متخطين الانقسامات وسوء الفهم، ومتنامين في الإيمان الذي يمتّن الشراكة. لا تنقصنّ فيكم شهادة المحبّة التي يكلّمنا عنها الإنجيل، في العالم الغني والمتنوع للجامعة والثقافة، وأظهروا القدرة على الإصغاء والحوار المتواضع في البحث عن الحقيقة، متأكدين من أنّ الحقيقة عينها هي التي تأتي إلينا وتتملّكنا. أودّ أيضًا أن أشجع الجهود، التي غالبًا ما تكون مضنية، والتي يقوم بها المدعوون إلى إدارة الشأن العام: التعاون في سبيل الخير العام، وفي سبيل أن تكون المدينة أكثر إنسانيّة، ويحلو العيش فيها، وفي هذا علامة أن الفكر المسيحي عن الإنسان لا يكون ضدّ حريته أبدًا، وإنّما لبلوغ الكمال الأقصى، الذي يتحقّق في "حضارة المحبّة" فقط. أقول للجميع، وبخاصّة للشباب: لا تفقدوا الرجاء أبدًا، ذلك الآتي من المسيح القائم، من انتصار الله على الخطيئة والبغض والموت.
تظهر لنا القراءة الثانية، على وجه التحديد، الغاية النهائيّة من قيامة يسوع: إنّها أورشليم الجديدة، المدينة المقدّسة، النازلة من السماء، من عند الله، كالعروس المزيّنة لعريسها (راجع رؤيا 21 : 2). ذاك الذي صُلب، والذي شاركنا في آلامنا، كما يذكرنا به الكفن المقدس، بشكل بليغ، هو ذاك الذي قام، ويريد أن يجمعنا كلّنا بمحبته. إنّه رجاء مدهش وقويّ وصلب، كُتب عنه في سفر الرؤيا حيث جاء: «ويمسح الله كلّ دمعة من عيونهم، وللموت لن يبقى وجود بعد الآن، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم، لأنّ العالم القديم قد زال» (رؤيا 21 : 4).
ألا ينقل لنا الكفن المقدّس الرسالة عينها؟ فيه نرى، كما في مرآة، آلامنا في آلام المسيح: «آلام المسيح، آلام البشر».3 ولهذا السبب بالذات، يكون الكفن علامة رجاء: واجه المسيح الصليب ليضع حدًّا للشرّ؛ وليجعلنا نلمح، من خلال فصحه، استباقًا لتلك اللحظة التي فيها سوف تُمسح كلّ دمعة من عيوننا، ولن يكون بعد موت ولا بكاء ولا صراخ ولا ألم. ينتهي هذا المقطع من سفر الرؤيا بالتأكيد على أنّ : «الجالس على العرش يقول: هاأنذا أجعل كلّ شيْ جديدًا» (رؤيا 21 : 5). والشيء الجديد الأوّل الذي حقّقه الله قطعًا هو قيامة يسوع، وتمجيده في السماء. إنّها فاتحة سلسلة من «الأشياء الجديدة»، التي نشارك نحن أيضًا فيها. «الأشياء الجديدة» هي عالم يعمّه الفرح، لا ألم فيه ولا قهر ولا استياء ولا بغض، بل المحبّة الآتية من عند الله، التي وحدها تغيّر كلّ شيء.
أيّتها الكنيسة العزيزة التي في تورينو،
أتيت بينكم لأثبّتكم في الإيمان. أناشدكم، بما أوتيت من قوّة وعاطفة، على الثبات في الإيمان الذي نلتموه، والذي يعطي المعنى للحياة، ويعطيكم القوّة لكي تحبّوا. لا تضيعوا أبدًا نور الرجاء الذي في المسيح القائم من بين الأموات، والقادر على تحويل الواقع، وجعل كلّ شيء جديد. عيشوا محبة الله في مدينتكم، وفي شوارعها، وفي جماعاتها الكنسيّة، وفي عائلاتها، بطريقة بسيطة وملموسة: «كما أحببتكم، أحبّوا أنتم أيضًا بعضكم بعضًا» .آمين.
في ما نختتم هذا القداس الاحتفالي، نوجّه صلاتنا إلى العذراء الكليّة القداسة، شفيعة تورينو الرئيسيّة، حيث تُكرَّم بصفتها معزية الحزانى. إنّي أوكل إليها هذه المدينة وجميع سكّانها.
يا مريم، إسهري على العائلات، وعلى القطاع العمّالي؛ إسهري على الذين فقدوا الإيمان والرجاء؛ عزّي المرضى، والسجناء، وجميع المتألمين.
يا معونة النصارى، إعضدي الشباب، والشيوخ، والذين هم في ضيق.
يا أمّ الكنيسة، إسهري على الرعاة، وعلى جماعة المؤمنين كلّها، ليكونوا «ملح» المجتمع و «نوره».
إنّ العذراء مريم، أكثر من أيّ كان، تأملت الله في وجه يسوع البشري. لقد رأته فور ولادته، في ما كان مقمطًا وموضوعًا في مذود؛ ورأته فور موته، لَمّا أُنزل عن الصليب، ولُفّ بكفن، وحُمل إلى القبر. لقد طُبعت فيها صورة ابنها المعذّب، التي تَجلّت على ضوء القيامة. وهكذا، تحفظ مريم في قلبها هذا السرّ الكامن في وجه المسيح، سرّ موت ومجد. منها نتعلّم دومًا كيف ننظر إلى يسوع نظرة حبّ وإيمان، ونتعرّف على وجه الله، من خلال ذلك الوجه البشريّ.
أُوكل إلى العذراء القديسة، جميع الذين عملوا في تحضير زيارتي هذه، والعرض العلني للكفن المقدّس، معترفًا بالجميل. أصلّي من أجلهم، ومن أجل تجدّد روحي عميق، يأتي نتيجة الأحداث التي نعيشها اليوم.
يا شبيبة تورينو الأعزّاء!
أيّها الشبيبة الأعزّاء الوافدين من بييمونت7 والمناطق المجاورة!
إنّي بغاية السعادة لوجودي معكم ، في ما أزور تورينو لتكريم الكفن المقدَّس. أوجّه لكم جميعًا تحيّة عطف وحنان، وأشكركم على استقبالكم، وعلى حماسة إيمانكم. بواسطتكم، أوجِّه سلامي إلى الشبيبة التي في تورينو وفي أبرشيّات البييمونت، مع صلاة خاصّة إلى أولائك الضالّين، والذين يمرُّون بظروفٍ أليمة وصعبة. أذكر بشكل خاصّ، وأقدّم تشجيعي العميق إلى السالكين طريق الكهنوت، أو التكرُّس، أو الذين اتَّخذوا الخيارات السخيّة لخدمة المهمَّشين. أشكرُ راعيكم، الكردينال سيفيرينو بوليتو، على التعابير الحارّة التي خصنّي بها، وأشكر ممثليكم، الذين عرضوا عليَّ مقاصد شبيبة هذه المدينة، وهذه المنطقة، مع إشكالياتهم وانتظاراتهم.
منذ خمس وعشرين عامًا، وبمناسبة السنة العالميّة للشبيبة، وجَّه المكرّم المحبوب يوحنا بولس الثاني، رسالة بابوية إلى شبيبة العالم، شبّانًا وشابات، محورها اللقاء المذكور في الإنجيل، بين يسوع والشاب الغني (رسالة الى الشبيبة، 31 أذار 1985). فانطلاقًا من ذلك الحدث (مرقس 10 : 17- 22؛ متى 19 : 16-22)، الذي كان أيضًا محطّ تأمل في رسالتي إلى «اليوم العالمي للشبيبة» لهذه السنة، أودُّ أن أقدِّم لكم بعض الخواطر، التي آمل أن تساعدكم في نموّكم الروحي، وفي آداء رسالتكم في قلب الكنيسة والعالم.
سأل ذاك الشاب يسوع: «ماذا أعملُ لأرثَ الحياة الأبدية؟». إنّه لمن الصعب، في أيّامنا هذه، الكلام عن حياة أبديّة، وعن حقائق أبديّة، لأنّ العقليّة السائدة في عصرنا تقول لنا أنّ ما من شيئ نهائي: كلُّ شيئ عرضة للتغيير، وبسرعةٍ فائقة. غالبًا ما أصبح «التغيير»، أمر اليوم، والممارسة الأكثر إثارة للحريّة. بهذه الطريقة، وحتّى أنتم الشباب، غالبًا ما تُحمَلون على الإعتقاد بأنّه من المستحيل اتخاذ خياراتٍ نهائية، تُلزم المرء مدى الحياة. ولكن، هل هذه هي الطريقة الفُضلى لممارسة الحريّة؟ وهل من الصحيح، أنّه علينا الاكتفاء بأفراح آنيّة، وصغيرة، وعابرة، كي نكون سعداء؟ وحين تعبر هذه الأفراح، تترك فينا مرارة في القلب؟ أيّها الشبيبة الأعزّاء، ليست هذه هي الحريّة الحقيقيّة، وليس هكذا ننال السعادة. لم نولد لإتمام خيارات عابرة وقابلة للإلغاء، إنّما خيارات نهائية مبرمة، تعطي الوجود كامل معناه. ها هو في حياتنا: نريد لكلِّ اختبار جميل يملؤنا فرحًا، أن لا يرى نهاية. لقد خلقنا الله «للأبد»، وزرع في قلب كلّ واحد منّا بزرة الحياة القادرة على تحقيق الأمر الكبير الجميل. فلتكن لديكم الشجاعة لاتّخاذ القرارات النهائيّة، وكونوا أمينين عليها! قد يدعوكم الله إلى الزواج، أو الكهنوت، أو الحياة المكرّسة، أو بحسب موهبتكم الخاصّة: تجاوبوا بسخاء مع هذا النداء!
في حديثه مع الشاب الغني، يشير يسوع إلى أهمّ ثروة في الحياة وأعظمها شأنًا: إنّها المحبّة، محبّة الله، ومحبّة الآخرين، من كلّ كياننا. نعرف أنّ كلمة «محبّة» لها تفسيرات مختلفة، ومعان متعددة: وها نحن بحاجةٍ لمعلّم، وهو المسيح، الذي يدلّنا إلى أصدق المعاني وأعمقها، ويقودنا إلى نبع المحبّة والحياة. المحبّة هي اسم الله، وهذا ما يذكِّرنا به يوحنا الرسول: «الله محبة... لسنا نحن أحببنا الله، بل هو أحبّنا فأرسل ابنه... إذا كان الله قد أحبّنا هذا الحبّ، فعلينا نحن أن يُحبّ بعضنا بعضًا» (1يوحنا 4 : 8، 10، 11). في اللقاء مع المسيح، وفي المحبّة المتبادلة، نختبر في ذواتنا حياة الله بذاته، الذي يسكن فينا، مع محبّته الكاملة، والشاملة، والأبديّة (راجع يوحنا 4 : 12). فليس هناك من شيئ أعظم للإنسان، هذا الكائن الفاني والمحدود، من الاشتراك في حياة الله الملؤها محبّة. نعيش اليوم في إطار ثقافي لا يساعد على تعزيز العلاقات الإنسانيّة العميقة، الخالية من أيّ مصلحة شخصيّة، بل على العكس، غالبًا ما يقودنا إلى الانغلاق على ذواتنا، وإلى الفردية، وإلى تغليب الأنانية الكامنة في الإنسان. غير أنّ قلب الشباب، بطبيعته، حسّاس للمحبّة الحقيقيّة. لذلك، أتوجّه بكثير من الثقة إلى كلِّ واحد منكم، وأقول: ليس من السهل أن تنعموا بحياة جميلة وعظيمة، فهذا أمرٌ يتطلّب منكم الكثير، ولكن، مع المسيح، كلّ شيئ مستطاع!
في عينيّ يسوع، الذي يحدّق في الشاب بمحبّة، كما يخبرنا الإنجيل، نلمس رغبة الله بالمكوث معنا، قريبًا منّا، منتظرًا «نعم» نقولها له، ومحبّة نظهرها له. نعم، أيّها الشباب والشابّات الأعزّاء، يريد يسوع أن يكون صديقًا لكم، أخًا لكم في الحياة، ومعلّمًا يدلّنا على طريق السعادة. هو يحبّكم لما أنتم عليه، في هشاشتكم وضعفكم، حتى إذا ما لمسكم حبّه، يمكنكم التغيير. عيشوا هذا اللقاء مع حبِّ المسيح عبر علاقةٍ شخصية عميقة معه: عيشوها في الكنيسة، بخاصّة في الأسرار. عيشوها في الإفخارستيا، حيث تقدمته موجودة: يعطينا حقًّا جسده ودمه، ليشتري خطايا البشر، ونصبح معه واحدًا، ونتعلّم بدورنا المنطق الذي اعتمده في بذل الذات. عيشوا ذاك اللقاء بالإعتراف، حيث يستقبلنا يسوع مع محدوديتنا، ويقدّم غفرانه لنا، ويعطينا قلبًا جديدًا، يحبُّ مثلما هو يُحبّ. تعلّموا الإلفة مع كلمة الله، والتأمّل بها، بخاصّة في القراءة الروحيّة للكتاب المقدَّس. وأخيرًا، تعلّموا كيف تجدون محبّة المسيح في الأعمال الخيريّة التي تقوم بها الكنيسة. تقدِّم لكم تورينو ، عبر تاريخها، أمثلةً رائعة: إقتدوا بها، عبر العيش الملموس للخدمة المجانيّة. على كلِّ أمر في الجماعة الكنسيّة أن يقود البشر ليلمسوا محبة الله اللامتناهية.
أيّها الأصدقاء،
إن محبّة المسيح للشاب الذي يذكره لنا الإنجيل، هي نفسها التي يكّنها لكلِّ واحد منكم. ليس هذا الحبّ محصورًا في الماضي، ولا هو سراب، ولا يقتصر على بعض المختارين. إذا ما التمستم الربّ بصدق، وإذا ما اشتركتم بعمق في حياة الجماعة المسيحية، تجدون هذه المحبّة، فتختبرون خصوبتها. فليحسب كلّ واحد منكم نفسه «جزءاً حيًّا من الكنيسة»، منخرطًا في مهمّة إعلان البشارة، من دون خشية، بالتناغم الصّادق مع إخوتكم بالإيمان، وبالاتحاد مع الرعاة، وتخلّوا عن النزعة الفرديّة في طريقة عيشكم للإيمان، كي تتنفسّوا ملء رئتيكم هذا الجمال الموجود في انتسابكم إلى فسيفساء كنيسة المسيح الكبيرة.
لا يسعني، في هذا المساء، أَلا أذكر شابًا من مدينتكم، تقتدون به: إنّه الطوباوي بيير جورجيو فراسّاتي8، حيث نحتفل، هذه السنّة، بالذكرى العشرين لإعلانه طوباويًّا. لقد غمرت حياته نعمة الله ومحبته، فاستهلك حياته في خدمة المسيح والإخوة، بسلام وفرح وشغف. لمّا كان شابًا مثلكم، عاش تنشئته المسيحيّة بزخم كبير، وشهد لإيمانه، ببساطة وواقعيّة. فتنه إنجيل التطويبات بجماله، فاختبر الفرح العميق في الصداقة مع المسيح، وفي التبعيّة له، وفي التزامه أن يكون جزءًا حيًّا ومتكاملاً من الكنيسة.
أيّها الشباب والشابات،
تحلّوا بالشجاعة لاختيار الأساسي في الحياة! كان الطوباوي بيير جورجيو فراساتي يردِّد: «عيشوا في صلب الحياة، لا على هامشها»، واكتشفوا مثله، أنّ الالتزام لله ومع الله، أمرٌ جدير بالفعل، كما هي الاستجابة لدعوته في خياراتنا الأساسيّة، وفي الخيارات اليوميّة، مهما كلّفتنا غاليًا! تذكِّرنا مسيرة الطوباوي بيير جورجيو فراساتي الروحيّة، أن الدرب التي يسلكها تلاميذ المسيح، تتطلّب الكثير من الشجاعة للخروج من الذات، والسير في خطى الإنجيل. تسيرون على هذا الدرب الشاقّ الذي يطلبه منكم الروح وأنتم في الرعايا، وفي شتّى المؤسسات الكنسية الأخرى؛ تختبرونه أيضًا في الحجّ إلى الأيّام العالميّة للشبيبة، في الموعد الذي طالما تنتظرونه. إني أعلمُ أنكم تتحضرون إلى اللقاء الكبير المرتقب في مدريد، في آب 2011. أتمنى من كلّ قلبي أن يساهم هذا الحدث العظيم والاستثنائي، كما اتأمل أن يشهد مشاركة كثيفة، وأن ينمّي في كلِّ واحد منكم الحماسة والأمانة للسير وراء المسيح، وقبول كلمته بفرح، هي مصدر حياةٍ جديدة.
يا شبيبة تورينو وبييمونت،
كونوا شهودًا للمسيح في زمننا هذا! فليكن الكفن المقدّس دعوة لكم كي تتطبعوا في عقولكم وجه الله المحبة، وكي تبقوا على ما أنتم عليه، تعبيرًا موثوقًا لوجه المسيح، في الأوساط الخاصّة بكم، ومع الشبيبة أبناء جيلكم. لتعينكم مريم، التي تكرِّمونها في معابدكم المريمية، والقدّيس يوحنا بوسكو، شفيع الشبيبة، للسير وراء المسيح، من دون ملل. ولتصحبكم دائمًا صلاتي وبركتي، التي أمنحكم إيّاها، مرفقة بالعطف والحنان. أشكركم لإصغائكم!
أيّها الأصدقاء الأعزّاء،
إنها لحظة لطالما انتظرتُها. لقد وجدتُ نفسي في مناسباتٍ عديدة أمام الكفن المقدّس، غير أنّي هذه المرّة أختبر هذا الحج وهذه الوقفة بعمق فريد؛ وقد يعود ذلك كونَ مرور السنين يجعلني أكثر رهافةً لما تقوله لنا هذه الأيقونة المميّزة. كما، وبشكل خاص، وبدون أيِّ شك، لأنني أحضرُ هنا بصفتي خليفة بطرس، حاملاً في قلبي الكنيسة الجامعة، لا بل البشريّة جمعاء. أشكر الله لعطية هذا الحجّ، وكذلك للفرصة التي أتيحت لي لأشارككم تأملاً وجيزًا أوحاه لي العنوان الفرعي لهذا العرض الاحتفالي، ألا وهو: «سرّ السبت العظيم».
يمكننا القول بأنّ الكفن هو أيقونة هذا السرّ، أيقونة السبت العظيم. بالواقع، إنّ الكفن هو قماشة للدفن لَفّت جسد رجل ميت، صُلب بشكل مطابق تمامًا لِما تقوله الأناجيل عن يسوع، الذي صُلب نحو الظهر، ومات نحو الساعة الثالثة بعد الظهر. عند المساء، وبما أنّ ذلك اليوم هو عشيّة السبت الفصحي الاحتفالي، قام يوسف الرامي، وهو الرجل الغنيّ والمقتدر في مجمع اليهود، وطلب بشجاعة من بيلاطس البنطي، أن يسمح له بدفن يسوع في قبره الجديد، الذي كان قد حفره في الصخر، والموجود بالقرب من الجلجلة. وبعد أن نال الإذن، اشترى كفنًا؛ وما أن أُنزل جسد يسوع عن الصليب، حتّى لَفّه بذاك الكفن، ووضعه في ذلك القبر (راجع مرقس 15: 42 – 46). هذا ما ينقله إنجيل القدّيس مرقس، ويوافق عليه الإنجيليون الآخرون. منذ ذلك الحين، بقي يسوع في القبر حتّى فجر اليوم الذي يلي السبت.
يقدّم لنا كفن تورينو صورة جسده الممدّد في القبر، أثناء تلك الفترة، التي كانت قصيرة (حوالي اليوم والنصف)، ولكنّها كبيرة ولامتناهية في قيمتها ومعناها. السبت المقدّس هو اليوم الذي فيه يَتستّر الله، كما نقرأ في عظة قديمة: «ماذا حدث؟ هناك صمت كبير في الأرض اليوم، صمت عظيم ووحشة. صمت كبير لأن الملك نائم... الله رقد في الجسد، فاهتزّ الجحيم» (عظة في السبت المقدّس، الآباء اليونان 43، 439). وفي قانون إيمان الرسل، نعترف بأن يسوع المسيح «صُلب على عهد بيلاطس البنطي، ومات وقُبر، ونزل إلى الجحيم، وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات».
في زمننا الحاضر، وبعد أن عبرنا القرن الماضي، أضحت البشرية حسّاسة، بشكل خاصّ، لسرّ السبت العظيم. صار تستّر الله يشكل جزءًا من روحانيّة الإنسان المعاصر، وبشكل وجودي، لاواع تقريبًا، وبات مثل فراغ في القلب يتّسع رويدًا رويدًا.
في نهاية القرن التاسع عشر، كتب نيتشه: «مات الله! نحن قتلناه!». إذا ما نظرنا إلى هذا التعبير الشهير بإمعان، نرى أنّه مأخوذ حرفيًا من التقليد المسيحي، غالبًا ما نردّده في درب الصليب، ربّما من دون أن ندرك بالكامل معنى ما نقوله. بعد الحربين العالميتين، وبعد المعتقلات النازيّة والشيوعيّة، وبعد هيروشيما وناكازاكي، بات عصرنا أكثر فأكثر سبتًا عظيمًا: يحثّ ظلام هذا اليوم جميع الذين يتساءلون عن الحياة، ويحثّنا نحن المؤمنين، وبشكل خاصّ، إذ نحن أيضًا لنا علاقة مع هذا الظلام.
ومع ذلك، فموت ابن الله، موت يسوع الناصري، له بُعد معاكس، كلّه إيجابيّة، ومنهل تعزية ورجاء. يجعلني هذا الأمر أفكّر بأن الكفن المقدس هو مثل وثيقة «مصورة»، فيها «الإيجابي» و «السلبي». والواقع هو أن سرّ الإيمان الخفي هو، في الوقت نفسه، علامة رجاء مشرقة بلا حدود. السبت المقدّس هو «أرض لا يملكها أحد»، تقع بين الموت والقيامة، عَبَرَها واحدٌ، وحيد، حاملاً علامات آلامه من أجل الإنسان: «آلام المسيح، آلام الإنسان». والكفن المقدّس يكلّمنا عن تلك اللحظة بالذات، ويشهد بالتحديد لهذا الأمر الفاصل الفريد، الذي لا يتكرّر في تاريخ البشرية والكون، والذي فيه شاركنا الله في يسوع المسيح، ليس فقط بموتنا، بل أيضًا ببقائنا في أحضان الموت. هذا هو التعاضد الأكثر جذريّة.
في ذلك «الزمان ما بعد الزمان» ... «نزل يسوع المسيح إلى الجحيم». ما معنى هذا التعبير؟ يعني أن الله، الذي صار بشرًا، وصل إلى نقطة الدخول في وحشة الإنسان القصوى والمطلقة، حيث لا يصل أيّ شعاع حبّ، ويسود التخلّي التام، حتّى من كلمة عزاء، وهذا المكان هو "الجحيم". ففي بقائه في حضن الموت، تخطى يسوع المسيح باب هذه الوحشة الأخيرة، لكي يقودنا، نحن أيضًا، فنتخطاها معه. كلّنا شعرنا، في بعض الأحيان، بإحساس التخلّي المخيف، وهو أكثر ما يخيفنا في الموت، تمامًا كالأطفال الذين يخافون البقاء لوحدهم في الأماكن المظلمة، ويكفي حضور مَن يحبّنا لنطمئنّ. هذا ما حدث بالظبط يوم السبت العظيم: لقد تردّد صوت الله في أرجاء مملكة الموت. تمّ ما لا يمكن لفكر أن يحويه، إذ ولج الحبّ إلى الجحيم: حتّى في ظلام العزلة البشرية المطلقة، باستطاعتنا سماع صوت يدعونا، وإيجاد يد تقودنا إلى الخارج. يعيش الإنسان لأنّه محبوب، ولأنّ باستطاعته أن يحبّ؛ وإذا ما دخل الحبّ إلى ساحة الموت، فهناك أيضًا تتغلغل الحياة. في ساعة الوحشة الأخيرة، لن نكون لوحدنا: «آلام المسيح. آلام الإنسان» (راجع الحاشية 2).
هذا هو سرّ السبت العظيم! ومن هناك بالضبط، من الظلام الذي غطّى موت ابن الله، انبثق نور الرجاء الجديد: نور القيامة. وعليه، إذ ننظر إلى هذا الكفن المقدّس بعيون الإيمان، نرى شيئًا من هذا النور. بالواقع، أٌغرِق الكفن في تلك الظلمة الدامسة، لكنّه، في الوقت عينه، هو منير؛ وأعتقد أنّه عندما يأتى آلاف وآلاف الأشخاص لتكريمه، من دون إهمال الذين يتأملون به من خلال الصور، فما ذلك إلاّ لأنّهم لا يرون فيه الظلمة فقط، بل النور أيضًا؛ لا فشل الحياة والحبّ فحسب، بل الانتصار، إنتصار الحياة على الموت، والحبّ على البغض؛ إنّهم يعاينون موت يسوع، ولكنّهم يستشفّون قيامته أيضًا ؛ تنبض الحياة في حضن الموت، لأنّ الحبّ جعل من الموت موطنًا له.
هذا هو سلطان الكفن: إنّ وجه «رجل الأوجاع» هذا، الذي يحمل على عاتقه آلام الإنسان، في كلّ زمان ومكان، وآلامنا، ومصاعبنا، وآثامنا، "آلام المسيح، آلام الإنسان" (راجع الحاشية 2)، يشعّ وقار مهيب، وسلطان حافل بالمفارقة. هذا الوجه، وهاتين اليدين، وهاتين الرجلين، وهذا الجنب، وكلّ هذا الجسد، إنما يتكلّم جهارًا، هو بذاته كلمة نصغي إليها في جوّ من الصمت.
ماذا يقول لنا الكفن المقدّس؟ إنّه يكلّمنا من خلال الدم، والدم هو الحياة! الكفن هو أيقونة مكتوبة بالدم؛ دم إنسان جُلد، وكُلّل بالشوك، وصُلب، وطُعن جنبه الأيمن. صحيح أنّ الصورة المطبوعة على الكفن هي صورة ميت، ولكن الدم يتحدث عن الحياة التي فيه. كلّ وصمة من دمه تحدّثنا عن الحبّ والحياة، بخاصّة تلك الوصمة الغضّة في جنبه، المؤلّفة من دم وماء، خرجا بغزارة من جرح كبير تسبّبت به طعنة الحربة الرومانية: هذا الدم و هذا الماء يتحدثان عن الحياة، هما مثل ينبوع يخرّ صامتًا، ونحن نسمعه، ونصغي إليه، في سكون السبت العظيم.
فلنحمد الربّ دومًا لأجل حبّه الأمين الرّحيم. في ما نحن نغادر هذا المكان المقدّس، فلنحمل صورة الكفن في عيوننا، وكلمة الحبّ في قلوبنا، ونسبّح الله في حياة جديدة كلّها إيمان ورجاء ومحبّة. وشكرًا.
حضرات السّادة الكرادلة،
أود أن أعبّر لكم جميعًا عن فرحي وعرفاني بالجميل نحو الربّ الذي قادني إليكم، إلى هذا المكان، حيث تتجلّى محبّة الآب السماوي وعنايته، بأشكال مختلفة، وبحسب موهبة خاصّة.
ينسجم لقاؤنا هذا مع حجّي إلى الكفن المقدّس، الذي نقرأ فيه، ليس مأساة الألم كلّها فقط، بل أيضًا، وعلى نور قيامة المسيح، المعنى الكامل لفداء العالم. أشكر الأب ألدو ساروتّو على الكلمات المجدية التي وجّهها إليّ: من خلاله، أقدّم شكري إلى جميع العاملين في هذا المكان، الدار الصغيرة للعناية الإلهيّة، كما أراد القدّيس جوزيف كوتولنغو11 أن يسمّيه. أحيّي العائلات الرهبانيّة الثلاث التي وُلدت في حضن الكوتولنغو، ومن «تصوّر» الروح القدس، معترفًا بالجميل لهم. أشكركم جميعًا، أيّها المرضى الأعزّاء، فأنتم الكنز الثمين في هذه الدار، وفي هذه المؤسّسة.
كما قد تعلمون، أثناء المقابلة العامّة التي جرت الأربعاء الماضي، تكلّمت عن موهبة مؤسّسكم وأعماله، إلى جانب كلامي عن القدّيس ليوناردو موريالدو12. أجل، كان مؤسّسكم بطلاً حقيقيًّا من أبطال المحبّة، وها إنّ مبادراته ظاهرة أمامنا، وأمام عيون العالم بأسره، كأشجار وارفة الفروع.
إذا ما قرأنا شهادات ذلك الزمان، نرى أنه لم يكن سهلاً على كوتولنغو أن يبدأ مهمّته. إنّ أعمال المساعدة الاجتماعيّة التي كانت قائمة في ذلك الزمان لصالح المحتاجين، لم تكن كافية لتشفي جروح الفقر التي في مدينة تورينو المنكوبة. حاول القدّيس كوتولنغو الردّ على هذا الوضع، فبدأ الاهتمام بالأشخاص المحتاجين، معطيًا الأولويّة إلى الذين لم يكن لديهم مَن يستقبلهم أو يعتني بهم.
لم تكن الخطوة الأولى لإنشاء دار العناية الإلهيّة سهلة، ولم تستمرّ طويلاً. لذلك جرت خطوة أخرى، في العام 1832، في حيّ فالدوكو، حيث قامت بعض الجماعات المسيحيّة بمدّ اليد، وتمّ تشييد مبنىً جديد.
بالرغم من مروره بأوقات مأساويّة في حياته، واجه القدّيس كوتولنغو الأحداث بثقة هادئة. كان نبيهًا في إدراك العلامات التي تدلّ على أبّوة الله، وملاحظًا حضوره ورحمته في جميع الظروف، وواجدًا، في الفقراء، صورة عظمته المحبّبة. كانت تقوده قناعة راسخة، عبّر عنها بالقول: «الفقراء هم يسوع، ليسوا مجرد صورة عنه، إنّهم يسوع بذاته، ويجب خدمتهم على هذا الأساس. كلّ الفقراء هم أسيادنا، بخاصّة الذين يقززون العين الجسديّة، هم جواهر حقيقيّة لنا. إن لم نعاملهم بشكل جيّد، ليطردوننا هم من الدار الصغيرة، إذ هم يسوع».
شعر القدّيس كوتولنغو بضرورة العمل من أجل الله، ومن أجل الإنسان، على حدّ سواء، مدفوعًا من أعماق قلبه، بكلمة الرسّول بولس: «محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا» (راجع 2 كورنتُس 5 : 14). أراد أن يترجم هذا القول بالتزام كامل في خدمة الضعفاء والمنبوذين. منذ البدء، اعتمد مبدأً أساسيًّا في عمله، بأن يمارس المحبّة المسيحيّة نحو الجميع، ما جعله يعترف بالكرامة العظيمة الكامنة في كلّ إنسان، ولو عاش على هامش المجتمع. لقد فهم أنّ مَن ضربه الألم والنبذ، يميل إلى الانسحاب من المجتمع، وعزل نفسه، وإبداء قلّة الثقة في الحياة. لذلك، إنّ حمل ثقل الآلام البشرية يعني، بالنسبة إلى قدّيسنا، خلق علاقات قرب عاطفي، وعائلي، وعفوي، بواسطة مؤسّسات تعزّز هذا القرب، بأسلوب عائلي، ما زال قائمًا حتّى اليوم.
بالنسبة إلى القدّيس كوتولنغو، إنّ إعادة بناء الكرامة الشخصيّة تعني إعادة بناء الإنسان، وإعطاء قيمة له: بدءًا من الحاجات النفسيّة والاجتماعيّة الأساسيّة ، وصولاً إلى الحاجات الخلقيّة والروحيّة؛ ومن تأهيل القدرات الجسديّة، إلى البحث عن معنى الحياة؛ هكذا كان يقود الأشخاص ليشعروا بأنّهم صاروا جزءًا حيًّا من الجماعة الكنسيّة، ومن النسيج الكنسي. لرسول المحبّة هذا فضل علينا، لأنّه، إذ نزور هذه الأماكن، ونعاين الألام اليوميّة في وجوه الكثير من إخوتنا وأخواتنا وأطرافهم،الساكنين هنا كما ولو كانوا في بيوتهم، نختبر بعمق أهميّة الألم والعذاب ومعناهما.
أيّها المرضى الأعزّاء،
أنتم تقومون بعمل عظيم: تعيشون آلامكم في شركة مع المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، وتشتركون في سرّ آلامه لأجل خلاص العالم. في تقديم ألمنا لله بواسطة المسيح، نستطيع أن نشارك في انتصار الخير على الشرّ، لأن الله يُخصب تقدمتنا وفعل حبّنا.
لا يجب على الموجودين هنا جميعًا، كلٌ في موضعه، أن يشعروا بأنهم غرباء عن مصير العالم، بل أن يشعروا بأنهم حجارة كريمة في فسيفساء جميلة جدًا، يقوم الله، كفنّان كبير، بصياغتها يومًا فيوم من خلال إسهامكم أيضًا. المسيح، الذي مات على الصليب لفدائنا، قَبِل أن يُسمّر لكيما من تلك الخشبة، التي هي علامة موت، تستطيع أن تُزهر الحياة بكل بهائها. هذه الدار هي إحدى الثمار الناضجة التي وُلدت من صليب المسيح وقيامته، وهي تُبيّن أن الألم، الشرّ، والموت ليس لها الكلمة الأخيرة، لأنّ الحياة تستطيع أن تقوم من الموت والألم. لقد شهد لهذا الأمر بشكل نموذجي واحد منكم، وأودّ أن أذكره: المكرّم الأخ لويجي بوردينو13، وهو صورة رائعة للراهب الممرّض.
في هذا المكان، نفهم بشكل أفضل أنّه، إذا كان المسيح قد أخذ آلام المسيح في ألامه، فما من شيء يذهب هدرًا. في هذا الموضع نفهم، بشكل خاصّ، رسالة عرض الكفن: آلام المسيح، آلام البشر (راجع الحاشية 3).
فلنصلّ إلى الربّ المصلوب، والقائم من بين الأموات، كي ينير حجّنا اليوميّ بضياء وجهه؛ وينير حياتنا، في الحاضر والمستقبل، الألم والفرح، أتعاب البشرية برمتها ورجائها. إليكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات، إذ أستشفع مريم العذراء والقديس كوتولنغو، أمنح بركتي من كلّ القلب: فلتعزيكم وتسندكم في التجارب، ولتنل لكم كلّ نعمة تأتي من الله، أصل كل عطية كاملة وواهبها. وشكرًا!
2 نقله إلى العربية: فارس حبيب ملكي ويوسف ميشال دكاش، عن النصّ الفرنسي الوارد على موقع الڨاتيكان http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/homilies/2010/documents/hf_ben-xvi_hom_20100502_torino_fr.html
3 هو شعار العرض العلني للكفن لعام 2010 ، ويعني أنّ المسيح حمل آلامنا وأوجاعنا على الصليب، فصارت آلام المسيح تجسيد لآلام البشر.
4 في الطقس اللاتيني، وفي الزمن الفصحي، تُستبدل صلاة «التبشير الملائكي» التي تُتلى ظهر كلّ يوم، بصلاة «إفرحي يا ملكة السّماء».
5 نقله إلى العربية: فارس حبيب ملكي، عن النصّ الفرنسي الوارد على موقع الڨاتيكان http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/angelus/2010/documents/hf_ben-xvi_reg_20100502_torino_fr.html
6 نقله إلى العربية: مروان جوزيف أبو ديوان وفارس حبيب ملكي، عن النصّ الفرنسي الوارد على موقع الڨاتيكان http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2010/may/documents/hf_ben-xvi_spe_20100502_incontro-giovani_fr.html
7 مقاطعة تقع في شمالي شرقي إيطاليا وعاصمتها تورينو.
8 وُلد بيير جورجيو فراسّاتي في تورينو، في 6 نيسان 1901، من عائلة غنيّة ووجيهة. تميّز بالتقوى، منذ صغره، وبالتجرّد عن المال والوجاهة. كان ناشطَا كاثوليكيًّا مناضلاً ضدّ الفاشيّة، وعضوًا في الرهبنة الثالثة الدومينيكيّة، وفي عائلة القدّيس منصور دي پول. إنتقل إلى الحياة الأبديّة في 4 تموز 1925. أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباويًا، وأطلق عليه لقب «رجل الطوبيّات الثمانية»، وحدّد الاحتفال به في 4 تموز من كلّ سنة.
9 نقله إلى العربية: فارس حبيب ملكي ومروان جوزيف أبو ديوان، عن النصّ الفرنسي الوارد على موقع الڨاتيكان http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2010/may/documents/hf_ben-xvi_spe_20100502_meditazione-torino_fr.html
10 نقله إلى العربية: فارس حبيب ملكي ويوسف ميشال دكاش، عن النصّ الفرنسي الوارد على موقع الڨاتيكان http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2010/may/documents/hf_ben-xvi_spe_20100502_incontro-ammalati_fr.html
11 وُلد القدّيس جيوزيبي بنديتو كوتولنغو العام 1786. هو كاهن إيطالي، ومؤسّس "الدار الصغيرة للعناية الإلهيّة" في تورينو، المعروفة بـ "كوتولنغو"، حيث يلجأ إليها المرضى والمهمّشين وذوي الاحتياجات الخاصّة، الذين لا يستطيعون تلقّي العلاج في المستشفيات المعروفة، بسبب أحوالهم الماديّة الصعبة، أو حالتهم الصحيّة الميؤوس منها؛ وهو مؤسّس رهبنة الكوتولنغو التي تضمّ 2000 راهبة و 60 أخًا و 45 كاهنًا، يقومون بالخدمة المجانيّة، ليس فقط في كوتولنغو تورينو، بل في سويسرا وكينيا وتنزانيا والهند والإكواتور والولايات المتّحدة الأميركيّة أيضًا. إنتقل إلى الحياة الأبديّة في العام 1842. تحتفل به الكنيسة في 30 نيسان من كلّ سنة. من أقواله: مارسوا المحبّة والإحسان بفرح.
12 وُلد القدّيس ليوناردو موريالدو العام 1828. هو كاهن إيطالي، عاش حياته كلّها في تورينو، وفي خطى دون بوسكو، حيث أسّس جمعيّة القدّيس يوسف للتنشئة المهنيّة، الخاصّة بالمعوزين. إنتقل إلى الحياة الأبديّة في العام 1900. تحتفل به الكنيسة في 30 آذار من كلّ سنة. من أقواله: باستطاعة العلماني، إلى أيّة طبقة اجتماعيّة انتمى، أن يكون رسولاً، ليس أقلّ من أيّ كاهن، بل أكثر من الكاهن، في بعض الأماكن.
13 وُلد الأخ لويجي بوردينو العام 1922. انتمى إلى إخوة الكوتولنغو، وخدم سنين طويلة في المجمع في تورينو. إنتقل إلى الحياة الأبديّة، العام 1977، بعد صراع طويل مع سرطان الدم.