وُلدت جوزفين وولام في العام 1945 وترعرعت مرحةً طوال السنوات الأربع الأولى من حياتها، فتاةٌ سعيدةٌ بصحّةٍ جيّدة. ثمّ بدأت المشاكل : التقطت البكتيريا القيحيّة المسبّبة لداء ذات العظم والنقي osteomyelitis الذي يؤدّي إلى انتشار التهاب حادّ ومؤلم في العظم والنقيّ. أصيب كلّ من رأسها ورئتيها ورجليها بهذا المرض الخبيث، بالإضافة إلى تسمّم الدم الذي نتج عنه خرّاجات عدّة في العظام والرئتين وفروة الرأس. وفي إحدى المرّات، كانت تعاني من ثلاثة عشر خرّاجًا على رأسها وحده. وكان مركز الالتهاب في وركها الأيسر، ما أدّى إلى توقّف رجلها اليسرى عن النموّ. ومع بلوغها السنّ العاشرة، كانت رجلها اليسرى أقصر بحوالى العشرين سنتيمترًا من الرجل اليمنى، وكانت قدمها اليسرى ملتويةً ومصوّبة مباشرةً الى الأسفل. في العام 1952، باتت عاجزة عن التُنقل إلاّ ممدّدة على قاعدة يجرّها الأهل. بحلول ذلك الوقت، كانت قد لازمت المستشفيات أكثر من المنزل، وأصبحت هزيلة القوى الجسديّة والعقليّة، ولم تعد تزن سوى 19 كيلوغرامًا فقط.
في التاسع من نيسان، العام 1953، صدر مقالاً قصيرًا في مجلّة «بيكتشور بوست» Picture Post بقلم العقيد الطيّار في سلاح الجوّ الملكي، وحامل وسام «صليب فيكتوريا»2، ليونار تشيشاير3 Leonard Cheshire ، تخلّلته صورٌ عدّة. وفي يوم الثلاثاء، من أسبوع الآلام، أحضر والد جوزي المجلّة إلى المنزل. كانت جوزي قد أضاعت الكثير من مراحل التعليم، ولذلك، لم تكن تجيد القراءة جيّدًًا، لكنّها أصبحت تهتمّ وتتلهّف للصور كثيرًا، وبالأخصّ لصورة الوجه المقدّس. في يوم الجمعة العظيمة، جلّ ما كانت تفكّر فيه هو صلب المسيح، فطلبت من والدتها، عند حوالى الساعة الثالثة من بعد الظهر، أن تقرأ لها، بصوتٍ مرتفع، تأمّلات درب الصليب. بعد ذلك، قالت مرّاتٍ عدّة وبثقة إنّها إذا رأت الكفن المقدّس، ستتمكّن من السير مجدّدًا، وتمتمت والدتها المحزونة القلب موافقتها الرأي. لاحقًا، في ذلك اليوم، ارتفعت حرارة جوزي بشكل مفاجئ إلى 40 درجةٍ مئويّة، ما اضطرّ والداها للإسراع بها إلى المستشفى، لكنّ حالتها بقيت تتدهور من سيّئ الى أسوأ. بدأت رئتاها تنزفان، وبحلول شهر أيّار، كانت تبصق عبر السعال أكثر من كوب دم كلّ يوم. وكان على الدكتور ستالمان Stallman ، الجرّاح المسؤول عن حالتها، أن يُخبر والدتها بأنّ الطفلة تُحتضر. فاستدعوا الكاهن الذي منحها مسحة المرضى. لم يكن بمقدور جوزي تناول الطعام، لكنّها كانت تكرّر باستمرار وبثقة من أنّها، إذا رأت كفن المسيح، ستتمكّن من السير مجدّدًا.
في التاسع من شهر أيّار، كتبت السيّدة وولام للعقيد تشيشاير ما يلي:
« أنا أكتب لكَ لأسألك ما إذا كان بالإمكان مباركة ابنتي جوزفين بذخيرة من كفن المسيح. إنّها في العاشرة من عمرها، وهي في المستشفى تعاني من التهاب العظم والنقي في وركها ورجلها. لديها أيضًا خرّاج في رئتها، وقد أخبرني طبيبها أنّه ما من أمل في تحسّن حالتها. إنّها تتنقّل بين المستشفى والمنزل منذ خمس سنوات. تلقّت يوم الجمعة المسحة المقدّسة الأخيرة. لقد طلبت جوزفين منّي أن أكتب لك، وقالت لي إنّها إن تمكّنت من رؤية الذخيرة المقدّسة سوف تتحسّن حالتها وستتمكّن من السير مجدّدًا. لقد عاملها الجميع في المستشفى أحسن معاملة. إنّها دائمًا في ألم كبير، لكنّها ترسم البسمة طوال الوقت على وجهها... أعلم أنّني أطلب أمورًا عظيمة جدًّا، لكنّني آمل وأدعو أن تُستجاب صلواتي لكي تتحسّن حالة ابنتي.
وتفضّل بقبول فائق الاحترام
السيّدة فيرونيكا وولام »
بدا واضحًا من هذا التعبير البسيط عن الإيمان والأمل، وهذه النبرة الضعيفة التي يمكن الشعور بها، أنّها لم تكن تتوقّع النجاح كثيرًا؛ لكنّها كانت حازمة وعازمة وثابتة، وقد صلّت من صميم قلبها.
كان العقيد بعيدًا عن مكتبه حين وصلت الرسالة، لكنّ أحد العاملين معه أرسل صورةً جميلةً لوجه المسيح في الكفن، مع رسالةٍ تفسيريّة تقول إنّه لا يوجد ذخائر من الكفن، وأنّ الكفن في تورينو، على بعد حوالى 3220 كيلومترًا، وأنّه نادرًا ما يُعرض أمام العموم، وإذا تمّ ذلك يكون تحت أقصى الشروط الأمنية تشدّدًا، إلخ.
لَمّا عاد تشيشاير، أعلم بفحوى الرسالة، وقال، لاحقًا، إنّه لم يتمكّن من نسيان الطلب.
ثمّ تلقّى رسالتين متتاليتين، تفصل بينهما فترة قصيرة. لم تعد جوزفين على فراش الموت، بل باتت تتجوّل في جناح المستشفى على الكرسيّ المدولب: «بالكاد تمكّن الطبيب أن يصدّق عينيه عندما رآها في كرسيّ مدولب، يوم الجمعة». والرسالة الثانية، بعد أيّام قليلة، أُبلغ فيها أنّ جوزي غادرت المستشفى وعادت إلى منزلها، وأنّها بحالةٍ أفضل ممّا كانت عليه منذ وقتٍ طويل.
لقد أمضيتُ بضعَ ساعاتٍ مع السيّدة وولام، في تشرين الأوّل 1984، وطلبتُ منها أن تخبرني عن مجريات الأمور، بكلّ دقّة. وكانت بولين، شقيقة جوزفين، أيضًا موجودة، لتؤكّد على الوقائع. قالت:
«عندما وصلت صورة الوجه المقدّس الظاهر على الكفن، في بريد الصباح الباكر، وضعتها على الرفّ، فوق الموقد، حيث بإمكاني رؤيتها فيما أتابع عملي... وكنت، في كلّ مرّة أمرّ أمامها، أصلّي وأصلّي...».
في عصر ذلك اليوم، كالعادة، ذهبتْ لترى جوزي في المستشفى. وتذكر أنّ بعض العاملين هناك بادروها قائلين: «سوف ترين تغيّرًا ملحوظًا في جوزي»، وهو أمرٌ سلّمتْ به بأسفٍ... وعندما فتحت باب الغرفة، واجهها سريرٌ فارغٌ، فخشيت أن يكون قد حلّ الأسوأ. ثمّ سمعت قهقهةً من وراء الباب، ووجدت جوزفين تجلس مستقيمةً في كرسيّ مدولب، تضحك للدهشة والذهول الواضحين على وجه والدتها. أخبرتها الممرّضة أنّ جوزفين سألت، عند وقت الفطور، ما إذا كان بإمكانها النهوض، وطلبت منها الممرّضات الانتظار، معتقداتٍ أنّهنّ يتعاملن مع نزوات طفلةٍ تُحتضر. لكنّها شدّدت كثيرًا وقالت إنّها تشعر بحالةٍ جيّدةٍ، فقمن بوضعها في الكرسيّ المدولب، بعناية، وكم ذُهلن عندما رأينَ أنّه صار بمقدورها الجلوس من دون مساعدة أحد، والتكلّم بطلاقةٍ كالبلبل، وبدأت تتحرّك في كرسيّها المدولب، في أرجاء الجناح، لوحدها. وبعد أسبوعين، غادرت المستشفى.
قلت، في قرارة نفسي، إنّ وضع صورة وجه المسيح على رفّ الموقد، وشفاء الطفلة المفاجئ في الوقت عينه، لم يكن سوى «صدفةٍ محض»، وخير لي أنّني لم أعبّر عن ذلك، لأنّ السيّدة وولام تابعت قائلة: «الأمر الأكثر دهشةً على الإطلاق كان أنّها لم تتحسّن بهذه السرعة فحسب، وفي الوقت نفسه الذي وضعت فيه الصورة في مقام شرفٍ في المنزل، بل منذ ذلك اليوم، لم يفرز جسمها أيَّ قيح، ولا القرحات الثماني في رجلها». وأضافت بولين أنّ الجروح كانت لا تزال مفتوحة وعميقة، لكنّها لم تفرز، بعد ذلك اليوم، أيّ قيح.
بقيت جوزي مقعدةً على الكرسيّ المدولب، لأنّ قدمها اليسرى كانت تشكّل لها مشكلةً أولى، يليها مشكلة رجليها اللتين ما كانتا تحملاها، ولو بوزنها الضئيل. في 17 حزيران، وصل العقيد الطيّار ليونار تشيشاير إلى عتبة البيت، ومعه صورةٌ كبيرة للكفن، وصورة أخرى، بالحجم الحقيقي، لوجه المسيح. جلس مع جوزي، وقدّم لها تفسيرات مطوّلة ومفصّلة، عن جميع الأمور الهامّة التي تمّ اكتشافها عن قماش كتّان الكفن، وعن بعض المشاكل التي يعاني منها، وعمّا يكشفه لنا عن آلام المسيح. أمّا في ما يتعلّق بطلبها بأن تتبارك بالكفن، فذلك غير وارد، بكلّ بساطة... من المستحيل القيام بذلك... ذلك مستحيلٌ على الإطلاق. إستمعت جوزي إلى القسم الأوّل من كلامه، بانتباهٍ عميق. أمّا الجزء الأخير، فلم تعرهُ ادنى انتباه. لذا، أعاد العقيد الطيّب الشرح صابرًا، وقال إنّ الكفن محفوظٌ وراء ثلاثة شباكٍ ضخمة من القضبان الفولاذيّة، كلّ واحد مقفلٌ بمفتاح مختلف، في خزنةٍ كبيرة مقاومةٍ للحريق، في المشكاة الواقعة فوق مذبح كاتدرائيّة تورينو؛ وبأنّ صاحب الكفن هو مَلِكَ إيطاليا المنفي إلى البرتغال، وسيتوجّب الحصول على اذنٍ منه، ثمّ على اذنٍ من رئيس أساقفة تورينو، الكردينال ماوريليو فوساتي Maurilio Fossati ، بصفته حارس الكفن؛ بالإضافة إلى إذن المحامين الكنسيّين، وسلطات الدولة الإيطاليّة. وفي محاولة يائسة لإقناعها، قال إنّه يتوجّب حتّى استشارة البابا نفسه... كانت تطلب المستحيل! كانت جوزي تنظر إلى فمه وهو ينطق بتلك الكلمات، وتومئ له موافقةً، وتبتسم... لكنّ عينيها لم تعبّرا عن ذلك.
في الحرب العالميّة الثانية، حاز العقيد الطيّار تشيشاير على وسام «صليب فيكتوريا»، وهو أعلى وسام تمنحه إنكلترا للذين أظهروا البسالة في الحرب. من بين المهامّ التي نفّذها، كان تفجير جسر هامّ لسكّة الحديد في خليج أنتيور Antheor 4 مع أنّ تلك العملية باءت بالفشل. لاحقًا، كتب تشيشاير: «سوف أذكر دومًا بأنّ الفرصة المهدورة تُهدر إلى الأبد، ومهما حصل، لن أتردّد أبدًا بعد الآن، أو على الأقلّ ليس بعد أن أبصر الهدف». والآن، كان يواجه شخصًا مصمّم على تنفيذ ما يقوله، فهي رأت الهدف، ولم تكن تنوي الانحراف عنه. عندما وصف تشيشاير ذلك اليوم في غلوشستر Gloucester ، قال إنّه نظر إلى وهن تلك الفتاة، وإلى قدمها المشوّهة، ورجلها المعوّقة المقيّدة في جبيرةٍ، واستمع إلى إقرارها الراسخ أنّها، إن رأت الكفن، فسوف تسير مجدّدًا. «بدا أنّه ما من شيءٍ آخر يمكن فعله سوى أخذها إلى تورينو».
من السهل قول ذلك، لكنّ تنفيذه صعبٌ جدًّا. في ذلك الوقت، كان تشيشاير يتعافى من جراحةٍ كبيرةٍ خضع لها في صدره، لذا كان يُمنع عليه السفر جوًّا، فيما شاغل الكرسيّ المدولب طفلة مريضة، والممرّضةُ التي كان يُفترض بها أن ترافقهما اعتذرت عن الذهاب في اللحظة الأخيرة. لذا كان على تشيشاير أن يؤدّي دور الملاّح والممرّض والمرشد والمحرّك، فيدفع إلى الأمام ويجرّ ويدير العمليّة ويخطّط بالنيابة عن كليهما. واجهتهما أيضًا مسألة التمويل. فهو يملك القليل، وهي لم تكن تملك شيئًا البتّة. لذا، كان يمكن اعتبار المسألة برمّتها مغامرةَ تتطلّب قدرًا كبيرًا من الإيمان. هبّ رئيس أساقفة بيرمنجهام Birmingham ، المطران غريمشاو Grimshaw ، إلى نجدتهما، لحلّ الأزمة الماليّة، والانطلاق إلى لشبونة، حيث كان يقيم أومبرتو الثاني دي سافوا، من سلالة سافوا الملكيّة، التي تمتلك الكفن وتحميه منذ خمسمئة سنةٍ. لم يكتف الملك المنفي بإعطائهما المأذونيّات كلّها التي طلباها، بكلّ طيبة خاطر، بل قدّم لهما أيضًا المال اللازم لاستكمال الرحلة. ومن دون أن يعلما، هاتف أيضًا ممثّليه في إيطاليا، ليفعلوا كلّ ما يلزم للمساعدة. غير أنّه حذّر تشيشاير، في الوقت نفسه، من أنّه سيواجه صعوبات كثيرة، أكان من قبل الإدارات الكنسيّة أو المدنيّة، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر باستدعاء أناس مهمّين وكثيري الانشغالات، يعيشون بعيدًا، في غضون هذه المهلة القصيرة.
بدأ مسافرانا بعبور إسبانيا وفرنسا نزولاً إلى إيطاليا. عند رصيف سكّة الحديد في تورينو، وجدا مجموعةً صغيرة في انتظارهما؛ لقد تمّ تدبير أمر إقامتهما، وتعيين موعد لقائهما الكردينال، في الصباح التالي. لا شكّ في أنّ الملك أومبرتو قد مهّد لهما الطريق.
عندما قيل للكردينال فوساتي أنّهما يريدان فتح الخزنة التي فوق المذبح، وإخراج الكفن من مذخره المختوم، هزّ رأسه سلبًا ببطء وأسف، نظرًا لما يتطلّب هذا الأمر من شهود قانونيّين ومدنيّين وكنسيّين، وتدابير أمنيّة استثنائية. فبكلّ بساطةٍ، لا يمكن إنجاز ذلك في الوقت المحدّد... إذ سيتمّ إزعاج أناس كثيرين، وسيتمّ تعريض الكفن المقدّس للخطر. كان ذلك طريقًا مسدودةً إلى أن سحبت جوزي، من ظهر كرسيّها المدولب، رزمةً صغيرةً، وأرته منها زوج حذاء جديد، كانت سترتديه في عودتها سيرًا إلى المنزل؛ بالإضافة إلى فستان طويل من الدانتيل الأبيض، مصدر اعتزازها وسعادتها. شرحت جوزي للكردينال أنّ ذلك كان «فستان عرس حاكته خالتي خصّيصًا لهذه البرَكة». عندئذ، شوهد صاحب النيافة يسير بخطواتٍ سريعة صوب زاوية الغرفة، حيثُ استسلم لأفكار مهمومة، لدقائق عدّة، قبل أن يدخل مكتبه، حيث سُمع صوته يُهاتف أناس عدّة. عندما عاد إليهما، قال إنّه عليهما العودة عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، وإن تمكّنوا من اتّخاذ التدابير كلّها بحلول ذلك الوقت، تقام مراسم التبريك.
عند حلول الساعة المنتظرة، كانت التدابير كلّها قد اتُّخذت، فحضرت السلطات المختلفة، مع جوزي المرتديةِ ثوبها وطرحتها، وحذاؤها الجديد موضوعٌ بكلّ ترتيبٍ في ظهر كرسيّها المدولب. خُصّصت فترةٌ للصلاة، بهدوء وخشوع، إلى أن نهض الكردينال عن ركبتيه. صعد كاهنان درجات السلّم، وبدآ يزيلان الأختام، ويفتحان الشباك الفولاذيّة. وسُحب المذخر الكبير الذي يتعدّى طوله المئة وعشرين سنتيمترًا، من المشكاة، وأُنزل وُوضع، في البدء، على طاولةٍ أمام المذبح. ثمّ وُضع على ذراعَي الكرسيّ المدولب، كي تتمكّن جوزي من إلقاء يديها عليه؛ لكنّ شيئًا لم يحصل. سُئل الكردينال ما إن كان بالإمكان إزالة الأختام الخارجيّة، وإخراج الكفن. تفحّص الكردينال الأختام، ثمّ وافق على إزالتها. وبذلك، رُفع الكفن المقدّس الملفوف بغطائه الحريريّ الأحمر، وهو لا يزال محكمًا بشرائط وأختام كثيرة تؤكّد على أصالته، ووُضع في حُضن جوزي. لم يحصل شيءٌ. سألت جوزي إن كان بالإمكان وضع الكفن على طول رجلها اليسرى الملتوية، ولهذا الأمر أيضًا، منح الكردينال إذنه. لم يحصل شيءٌ. وسُمح لجوزي بأن تُدخل يدها الصغيرة تحت الغطاء الحريريّ الأحمر؛ ثمّ أعيدت اللفافة الثقيلة، بكلّ وقار، إلى المذخر المقدّس، وخُتمت الأقفال، وألصقت من جديد. ودُوّنت الإجراءات وسُجّلت وشُهد عليها في الوثائق الرسميّة وأُعيد الكفن إلى مكانه المعهود.
لم تنهض جوزفين، ولم تمش، كما كانت قد تصوّرت وأرادت، وبقيت هادئةً جدًّا. في السكرستيا، قبّلت خاتم الكردينال وشكرته على لطفه الشديد؛ ثمّ ثنت ثوب عرسها، ووضّبت حذاءها، وأعادتهما إلى مكانهما. في الظاهر، لم يحصل شيئًا، ولم يتغيّر شيئًا. يقول ليونار تشيشاير، الذي كان شاهدًا على هذه الأيّام القليلة الأولى: «في البدء، بدا واضحًا أنّ أملها قد خابَ، لكنّها بدت وكأنّها تلمّست، في ما جرى، وبطريقةٍ لافتةٍ، غايةً ما أو نزعةً. بالكاد تكلّمت عن نفسها، وعن العلاج المتوقّع، لكنّها قالت الكثير عن الأناس الآخرين، والإجلال الذي سيعطيه الكفن المقدّسُ إلى ربَّنا، إن تمكّن العالم بأجمعه أن يراه».
أتت والدة جوزي لتلاقيهما عند محطّة فيكتوريا في لندن، ولَمّا سألتها عمّا حصلَ في تورينو، أجابت جوزي: «أكثر ممّا ذهبتُ لأطلبه»... كم إنّها اجابة معبّرة لطفلةٍ. أضافت، لاحقًا، أنّها لو عرفت كم سيسبّب ذلك من المتاعب، لما كانت لتطلب أن تذهب!
لم تدّع جوزفين يومًا في حياتها قطّ أنّها شُفيت، لكنّ ما لوحظ عند عودتها كان أنّ القرحات العميقة المفتوحة والصعبة، بما فيها تلك التي على رجلها، بدأت تلتئمُ. ومنذ ذلك الوقت، وحتّى آخر أيام حياتها، لم تعد تعاني من أيّ مشاكل التهاب في العظم في رجلها أو في أيّ مكانٍ آخر، باستثناء عمليّة جراحيّة صغيرة، في أواخر العام 1955، لتجفيف إحدى القرحات. كانت لا تزال مقعدةً على كرسيٍّ مدولب، بما أنّ أيًّا من رجليها ما كانت لتحملها.
ما هو البرهان على الأقوال أعلاه. كان الجرّاح المختصّ بتقويم العظام، الذي تولّى حالتها منذ مستهلّ مرضها في العام 1949 ، عضوًا في الكليّة الملكيّة للجرّاحين. في الملاحظات التي دوّنها في بداية العام 1956، يقول الدكتور ستالمان بذهولٍ ملحوظ: " يبدو أنّ الجيوب شُفيت فعلاً ". في تلك السنة نفسها، تولّى الدكتور ميريويذر Merryweather ، وهو أيضًا عضوٌ في الكليّة الملكيّة للجرّاحين، مهامّ الجرّاح المختصّ في تقويم العظام، ودوّن التالي: «يبدو التهاب العظم والنقي هامدًا، ولا شيءَ حصل بعد ذلك ليشير إلى معاودة التهاب العظم، مع أنّها كانت لا تزال تعاني من إعاقةٍ مروّعةٍ. في نهاية الأمر، قمت ببتر رجلها اليسرى لأنّها كانت عديمة الجدوى، ولاحقًا، حلّت مكانها رجلاً إصطناعيّة عملت بشكل جيّد.» (رسالة خاصّة بتاريخ 8 تشرين الأوّل 1984). أُجريت عمليّة البتر في العام 1966. حتّى ذلك الوقت، كانت قدمها اليسرى المعوّقة مقبوضة في نوع من حذاء، بمقابض فولاذيّة من كلّ جانب، تمتدّ نزولاً إلى قدم اصطناعيّة وحذاء. لم يكن بإمكانها التنقّل سوى على عكّازين. كانت تلك بديلاً اصطناعيًا سخيفًا وعديم الفائدة، وكانت المقابض تسبّب لها قرحات مؤلمة. أمّا مع الرجل الاصطناعيّة، وعكّازين في البدء، ثمّ مع العصا، وبعدئذ من دون أيٍّ منهما، فتمكَّنت من السّير! كتب الدكتور ميريويذر: «بالنظر إلى قصّتها بشكل عام، عليّ الاعتراف بأنّه لصدفة مدهشة أن ينتهي العام 1955 مع فترة طويلة من الهمود في التهاب العظم والنقيّ. هل كانت تلك مجرّد صدفةٍ أم كانت شيئًا أعظم؟»
بدأت جوزفين تنمو بصحّةٍ جيدة، وتمكّنت، في البداية، من أن تتولّى وظيفةً بدوام جزئي، ومن ثمّ أن تشغل منصبًا بدوام كامل، كعاملة هاتف. وفي العام 1968، تعرّفت إلى روي جونز، وتزوّجا، وأنجبت طفلهما الأوّل في العام 1970. مات هذا الأخير، للأسف، قبل بلوغه عامه الأوّل، لكنّ ريتشارد، الطفل الثاني، الذي وُلد في العام 1973، يعيش اليوم مع والده، على مسافةٍ غير بعيدةٍ من مدينة ستراود Stroud في جلوسيسترشاير Gloucestershire . عادت جوزي إلى تورينو، في مناسبة العرض العلني للكفن الذي أقيم العام 1978، وعبّرت عن سعادتها في تحقيق أمنية طفولتها، وفي تمكين آلاف المؤمنين حول العالم من رؤية الكفن المقدّس.
الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه القصّة هي ثلاثة أساسيّة: 1) تمّ تضخيم الأحداث بشكل خاطئ ؛ 2) لم تجرَ، حتّى اليوم، أيّ تحقيقات وأي مشاورات مع الشهود الرئيسيّين؛ 3) لم تطبّق بعد، على حالة جوزفين، الخصائص التي حدّدها البابا القدّيس بيوس العاشر، لمعرفة ما إذا كان الشفاء عجائبيًا.
اليوم الحاسم في الحادثة بأكملها، كان حين وصلت صورة وجه المسيح المقدّس إلى منزل عائلة وولام، ووُضعت في مقام شرف. منذ ذلك اليوم، وتلك الساعة بالتحديد، شعرت جوزي فجأةً بتحسّن. أمّا الرحلة إلى تورينو، فمع أنّها حظيت بالتغطية الإعلاميّة الكافية، إلاّ أنّها كانت أمرًا ثانويًا. والشهود الرئيسيّون هم: السيّدة وولام، والشقيقة الصغرى بولين، والأهمّ منهما الجرّاحان المختصّان بتقويم العظام، الدكتور ستالمان والدكتور ميريويذر.
أمّا القواعد البابويّة لاعتبار الشفاء عجائبيًّا، فهي كما يلي:
1. أن يكون المرض خطيرٌ على نحوٍ عصيب والحالة لا تتحسّن. كانت الطفلة تُحتضر من مرض مميت يتخطّى قدرة المساعدة الطبيّة.
2. أن يكون التعافي فوريًّا من دون فترة تماثل للشفاء. كانت الطفلةُ مريضةً منذ خمس سنوات وقد تعافت في الوقت المحدّد نفسه الذي، ومن دون علم منها، وضعت والدتها فيه صورة وجه يسوع المسيح على رفّ الموقد. نهضت جوزي من سريرها وشعرت بتحسّن. ولم تتحسّن حالتها فحسب، بل أنّ القرحات ما عادت تُفرز أيَّ تقيّح، لا في ذلك الوقت، ولا في باقي حياتها. وبتعبير آخر، كان التهاب العظم والنقي قد شُفيَ.
3. أن يستحيل تفسير التعافي بشكل طبيعي. توقّف المرض المتفاقم عند حدّه، وانتقلت الطفلةُ من أشدّ حالات المرض خطورة إلى حالةٍ من الصحّة الواعدة والوفيرة.
4. أن لا يقع أيُّ انتكاس أو مجرّد تحسّن في أيّ وقتٍ لاحق. طوال السنوات الستّ والعشرين المتبقّية من حياتها، لم يعاود التهاب العظم والنقي الظهور. وقد دوّن الجرّاحان التقارير ووقّعا عليها بنفسيهما.
تجب الإشارة إلى أنّ شفاءً فوريًّا أو حتّى سريعًا جدًّا لالتهاب العظم والنقي، في ظروفٍ طبيعيّة، أمرٌ مستحيلٌ. فالمرض لا يصيب العضو المعني فحسب، بل الأنسجة المحيطة به أيضًا، والنخاع العظميّ. ينتشر هذا المرض بسبب انتشار السمّ في مجرى الدمّ وفي الجهاز اللمفاوي، بما فيه النخاع العظميّ. وهو يتغلغل في جسم الإنسان كلّه. إنّ ترميم الخلايا المدمَّرة (في البشرة والعضل والعظم)، يتطلّب خلايا جديدة، ويستلزم عمليّات جراحيّة وظائفيّة تحتاج إلى مزيد من الوقت. لذا، إنّ الشفاء الفوري للجسد بأكمله أمرٌ مستحيلٌ، طبّيًا وبيولوجيًّا. ومع ذلك، هذا ما حصل مع جوزي وولام. توقّفت القرحات الكثيرة عن إفراز القيح. بقيت الجروح مفتوحةً إلى أن ذهبت إلى تورينو؛ بعد أن أُلقيَ كفن المسيح على طول رجلها، بدأت تلك الجروحُ تلتئمُ وتُشفى، مخلّفةً ندباتٍ تذكّر باختفائها.
ولم تسِر مجدّدًا فحسب، كما سمعتُها تقول بسرور، بل قادت أيضًا سيّارتها الخاصّة، وأصبح لها زوجٌ وطفلٌ ومنزلٌ، وقد مُنحت القوّة لترعاهم بكلّ فخر. لديّ شريطٌ مسجّلٌ، أعدّته جوزي، عن زيارتها إلى تورينو، تتكلّم فيه بهدوء ورصانة، من دون أيّ مبالغات، ومن دون الادعاء بحصول أمور غير طبيعيّة. وأكثر ما يؤثّر فيه، هو الاستماع إليها وهي تحاول، من دون جدوى، التفتيش عن الكلمات، للتعبير عمّا حصل في تورينو؛ تتردّد وتتلعثمُ وتتوقّف أحيانًا. ثلاث مرّات حاولت أن تصف، وأن تفسّر، لتقول في نهاية المطاف: «من الصعب أن أعبّر بالكلمات... كانت نعمةً إلهيّة مميّزة... مهما كانت، فقد غيّرت نظرتي كلّها إلى الحياة، وحالتي الذهنيّة بأكملها». وكانت ردّة فعلي أنا، عندما استمعتُ إليها، وفكّرت في ما تكلّمت عنه، أنّها أصبحت حكيمةً.
يقول ليونار تشيشاير عنها إنّها أصبحت صافية الذهن، وغير أنانية، تتمتّع بسلام لا يمكن للعالم بأسره أن يهبها إيّاه. تحزن شقيقتها پولين لعدم تمكّنها من وصف ردّات فعلها هي في ذلك الوقت، فكيف بالأحرى ردّات فعلِ جوزي، لكنّها استخدمت الكلمة «سعيدة» مرّات عدة. وذلك أمرٌ ركّزت عليه جوزفين بنفسها، وقالت إنّها حصلت على الهدوء في أعماق ذهنها، وبدت تتلاشى كلّ الأمور التي أتعبتها في الماضي، كمثل كونها عبئًا على الآخرين، واضطرارها للاتّكال على الغير لمساعدتها، وأنّ الأمر سيبقى دومًا على هذا النحو... بعد تورينو، فهمتْ أنّها سوف تواجه الألم والمعاناة؛ حتّى أنّها تمكّنت من تقبّل خسارة طفلها الأوّل، مع أنّ نبرة صوتها تنخفض دائمًا درجةً أو اثنتين عندما تذكر ذلك: «تغيّر شيءٌ بالنسبة إليّ في تورينو. لا يمكنني وصفهُ لكنّه مكّنني من تقبّل ذاتي تمامًا كما أنا... شعرتُ وقتئذ بأنّني قريبةٌ جدًّا من يسوع المسيح، ليس على صعيد الشعور أو العاطفة، لكنّه أصبح بإمكاني السّير على خطاه، الآن، لقد مُنحتُ شيئًا ما، في ذلك اليوم، نعمةً إلهيّة، لأتمكّن من مواجهة مصاعب الحياة اليوميّة. أنا سعيدةٌ ومسرورة، وذلك رافقني في كلّ يوم منذ ذلك الحين». يمكن سماع حقيقة هذه الكلمات العميقة والهادئة جيّدًا في نبرة صوتها.
توفّيت جوزي وولام في 31 أيّار العام 1981. رحم الله نفسها الجميلة.
لا تكتمل هذه القصّة من دون ذكر خاصّ لشخصين: والدة جوزي وجرّاحها.
يليق اسم السيّدة فيرونيكا وولام بها، فهي إسم على مسمّى، ناعمة الكلام، لا تتفوّه إلاّ بما قلّ ودلّ، كما لو أنّها التقت السيّد المسيح، الأسبوع الماضي، في السوبرماركت. وبكلّ عاطفةٍ، لا يسعني إلاّ أن أقارنها بتلك الأمّ التي يتكلّم عنها القديس متّى الرسول (15: 21-28). إذ يمكن تخيّل السيّد المسيح، بكلّ سهولة، يبتسم إلى فيرونيكا ويقول لها: «أَيَّتها الْمرْأةُ، عَظيمٌ إِيمَانكِ! فلْيكنْ لكِ مَا تطلُبِينَ!» فَشفيتِ ابنتهَا مِنْ تلكَ الساعَة.
ثمّ الدكتور ميريويذر. من بين الأسئلة الكثيرة المرهقة التي طرحتها عليه، واحدٌ يقول بأنّ جوزي ماتت من مرض التمدّد الشعبي Bronchiectasis (أيّ توسّع القصبات الهوائيّة الذي ينتج عادةً عن تكوّن أنسجة ليفيّة في الرئيتين). أذكر أنّ جوزفين كانت تميّز بين التهاب العظم والنقيّ من جهة، وبين مشاكلها الرئويّة من جهة أخرى، العائدة إلى إصابتها بالتهاب رئويّ في صغرها. يلخّص الطبيب هذه الأحداث بإجابته التي تحثّ كثيرًا على التفكير: «الإصابة الأساسيّة كانت تسمّم الدمّ (وجود بكتيريا وسمومها في مجرى الدمّ). وما كانت خرّاجات العظام سوى نتيجة لذلك، تمامًا كمرض التمدّد الشعبيّ، مع أنّني أعتقد أن التمدّد الشعبي لم يبرز إلاّ بعد التهاب العظم والنقي. لذا، يمكن القول إنّه كان ثانويًا لذلك». ويتابع القول: «بالطبع أنّ ثمّة أمورًا، في هذه القصّة الرائعة، لا يمكن تفسيرها علميًّا. كلّنا نعلم قوّة العقل على الجسم. فبرأيي، حتّى الأشخاص غير المتديّنين إطلاقًا، عليهم الاعتراف بأنّ أمرًا ما حصل لجوزفين، غيّر لها وضعها الذهنيّ، ما أثّر بالتالي على مرضها. هذا، برأيي، أقلّ ما يمكن قوله، وكثيرون سيعطون للأمر شرحًا روحيًّا أعمق بكثير».
* نقلته إلى العربيّة الآنسة ساندي جرجس (مؤسّسة ماركتك للترجمة) عن النصّ الانكليزي المنشور في مجلة Shroud Spectrum, No. 15, June 1985 وفي مجلّة Shroud News, No. 72, August 1992 والمأخوذ عن كتاب الأب فوليه "الكفن المقدّس: مرآة المسيح" The Holy Shroud: Mirror of Christ الصادر في الثمانينيات، والمؤلّف من 45 صفحة، تحتوي على بعض التعليقات العلميّة، بالإضافة إلى الرواية الحاضرة.
1 ملاحظة الناشر: بدأ اهتمام الأب شارلز فوليه Charles Foley بالكفن منذ العام 1932، خمس سنوات قبل أن يُرسم كاهنًا في الكنيسة الكاثوليكيّة. له كتاب عن الكفن، ومقالات عدّة في الموضوع نفسه، كما شارك في المؤتمرات العالميّة، وجاب إنكلترا محاضرًا وناشرًا رسالة الكفن المقدّس. عمل مرشدًا للقوّات المسلّحة الإنكليزية في الصحراء الغربيّة (أوستراليا) لمدّة أربع سنوات، وفي أوروبا لمدّة سنتين، واستقرّ كاهنًا في إحدى الرعايا الكاثوليكيّة في مقاطعة ديڨون Devon جنوب غربي إنكلترا.
2 م. ن. : أعلى وسام عسكري يمنح إلى أفراد القوات المسلّحة في بلدان الكومنولث، الذين أظهروا شجاعة كبرى في «مواجهة العدو» ، وله الأولويّة على سائر الأوسمة والميداليات.
3 م. ن. : وُلد ليونار تشيشاير في مدينة تشستر Chester في إنكلترا، في السابع من أيلول العام 1917. حملته إنجازاته الاستثنائيّة وشجاعته غير المألوفة، أبّان خدمته في سلاح الجوّ الملكيّ، على خوض 103 غارات قصفٍ. ولإتمامه المهامّ طوال هذه الفترة، مُنح وسام صليب فيكتوريا وغدا، في بريطانيا، أسطورة حيّة. إنتقل إلى الإيمان الكاثوليكي، وأسّس جمعيّة ليونار تشيشاير المكرّسة للمعوّقين عقليًّا وجسديًّا، والمنتشرة في 51 بلدًا، والموزّعة على 270 دارًا، وكان أحد نشاطاتها نشر المعلومات حول كفن المسيح، ومنها ما ورد في مقال البيكتشور بوست الذي احتوى على صور مختلفة للكفن كانت في أساس الأعجوبة التي حصلت مع جوزي. توفّي في 31 تموز العام 1992، قبل أقلّ من ستّة أسابيع من بلوغه عامه الخامس والسبعين، تاركًا وراءه زوجته البارونة سوزان رايدر وابنًا وابنةً. (Shroud Spectrum, No. 41, December 1992)
4 م. ن. : تقع مدينة أنتيور في جنوب فرنسا، في منطقة الكوت دازور.