في 17 نيسان 2014، بثّت قناة الأو تي ڤي التلفزيونية اللبنانيّة تقريرًا إخباريًّا عن كفن المسيح، مدّته 5 دقائق، من إعداد وتنفيذ رامي خليل، وتعليق عبدو الحلو، احتوى على العديد من المعلومات الخاطئة.
بما أنني توجهتُ بكتاب اعتراض إلى مدير البرامج في حينه، الأستاذ جان عزيز، طالبًا عدم إعادة نشره قبل تصحيح الأخطاء الواردة فيه، وذلك من دون أن ألقى جوابًا يُذكر.
وبما أنّ هذا التقرير غير العلمي، وغير الدقيق، يُعاد نشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي في كلّ مناسبة، بخاصّة في زمن الصوم الكبير، ما يشكّل ضررًا علميًّا ومعنويًا بحقّ الذخيرة الأعلى شأنًا في الكنيسة الكاثوليكيّة.
جئتُ في ردّي هذا أُلقي الضوء على تلك المغالطات، أذكرها في البدء، ثمّ أصحّحها وأوضحها.
قول خاطئ.
لم يأت ماكس فراي، مدير المختبر العلمي التابع لدائرة البوليس في زوريخ (سويسرا)، على ذكر هذا الأمر. كيف له ذلك وهو ليس بعالم في النسيج، بل متخصّص في الأدلّة الجنائية.
استُدعي ماكس فراي إلى تورينو (إيطاليا) حيث يُحفظ الكفن في كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان، في العام 1973، لمعاينته عن قرب، وحصل على الإذن بوضع 12 شريطًا لاصقًا على نسيج الكفن، ثمّ سَحَبَها، فتمكّن من الحصول على 12 عيّنة من الغبار العالق على سطح الكفن. الهدف من العمليّة هو دراسة أنواع اللقاح أو غبار الطلع الموجود على سطح القماشة، فيتمكن من تحديد أنواع النباتات والأشجار العائدة إليها، وبالتالي، معرفة الأماكن التي تواجد فيها الكفن، على مرّ التاريخ، ليس إلاّ.
مَن قال بأنّ الكفن صناعة فينيقية هو عالم الآثار الفرنسي موريس بييه Maurice Pillet الذي قال، بعد مشاهدته صورًا للكفن: «لم تُحَك هذه القماشة في أورشليم، لقد صُنعت في منطقة صيدا». ولَمّا قيل له بأنّه استنتج ذلك بسبب التسمية اليونانية للكفن، Sindon، القريبة من كلمة Sidon، قال: «لم أنتبه إلى هذا الأمر أبدًا. إنّ رؤية القماشة فقط أودى بي إلى هذا الاستنتاج».
الخلاصة: اختلط الأمر على معدّ التقرير، في الأسماء والتواريخ.
كيف يمكن صنع القماش من رحيق الأزهار! والرحيق أو النيكتار هو «سائل سكري ينتج بواسطة النباتات المزهرة حيث تقوم بعض أنواع الحشرات بإمتصاص الرحيق وبعد عملية الهضم داخل جسم الحشرة يتم إفراز الرحيق منها مرة أخرى في صورة عسل».
إنّ الكفن مصنوع من كتّان، كما جاء في التقرير، وذلك بعد دقيقة واحدة من قوله بأنّه مصنوع من رحيق أرز لبنان! ما هذا التناقض؟ لكنّ العالم ماكس فراي، السابق ذكره، وجد لقاح شجرة الأرز على قماشة الكفن.
الخلاصة: مرّة ثانية، إختلط الأمر على معدّ التقرير، ولم يحسن التفسير لاكتشاف ماكس فراي.
وصف غير موفّق.
ما نراه على قماشة الكفن ليس خيالاً يظهر ويختفي، بل آثارًا دائمة، واضحة المعالم، على شكل إنسان، نرى جسمه كاملاً من الأمام، يداه الواحدة فوق الأخرى، رجلاه ممدودتان، شعره مُسدَل على وجهه، له شاربان، ولحية منتوفة في الوسط. كما نراه كاملاً من الوراء، تنتشر على طول جسمه بقعٌ حمراء من الدم، أشدّ كثافة عند مؤخّر الرأس.
الخلاصة: إنّ استعمال كلمة «خيال» ليس موفقًا، ويقود إلى التضليل.
كان هذا التعداد معتمدًا وشائعًا منذ خمسين سنة، في بداية دراسات الكفن، مع فرق طفيف، إذ كنّا نقول بأنّ رجل الكفن تلقّى 40 جلدة من العسكر الروماني الذين راعوا التقليد اليهودي الوارد في سفر تثنية الاشتراع 3:25 حيث جاء: «إذا وقعت خصومة بين أناس ومثلوا أمام القضاء... وإن كان الشرّير يستحقّ الجَلد... يجلده أربعين ولا يزيد».
وبما أنّ آثار الجَلد في صورة الكفن تتطابق مع وسيلة الجَلد الرومانية المسمّاة فلاغروم flagrum، نجد نماذج عنها في المتاحف، وهي عبارة عن مقبض ينتهي بثلاثة أطراف من الجِلد، في رأس كلّ طرف قطعة من عظام أرجل الغنم، أو كُرَتان متلاصقتان من الرصاص، فيكون عدد الآثار الظاهرة على قماشة الكفن: 40*3=120.
إذًا، عدد الجلدات 40 وعدد الآثار على القماشة 120. هذا هو التعداد القديم.
أمّا التعداد الحديث الذي قام به فردريك زوغيبي، الطبيب الأميركي من أصول لبنانيّة، وجوليو فانتي الإيطالي، يبيّن وجود كدمات وجروح رضيّة على القماشة أكثر عددًا، بلغت 372 أثرًا، منها 159 على الجهة الأماميّة من الجسم، و 213 على الجهة الخلفيّة.
قول مبهم بالرغم من أنّ التطابق بين الكفن ورواية الآلام في الإنجيل هو صحيح. لذلك نقول بأنّ الكفن هو إنجيل خامس. لكن، من أين أتى الرقم 16؟ وما هي تلك التفاصيل؟
قول خاطئ ومبالغ فيه.
لم يتم أبدًا إجراء فحص الريسوس Rhesus لمعرفة ما إذا كان الدم بوسيتيف أو نيغاتيف، ولا أدري من أين جاء معدّ التقرير بهذه المعلومة؟ كما أنّ فئة الدم AB موجودة ومنتشرة لدى الناس.
لا شك بأنّه لم يحسن تفسير بعض النتائج التي توصّل إليها الأطباء الاختصاصيين في الدم hematologue أمثال آلن أدلر الأميركي، وبايما بولوني الإيطالي الذين قاموا بدراسة عيّنات عن الآثار الحمراء المتواجدة على قماشة الكفن، وذلك منذ حوالي أربعين سنة.
ولا شكّ أيضًا بأنّ البقع الحمراء الظاهرة على الكفن هي دم، وليست تلوين أو صبغة أو غيرها من المواد الاصطناعيّة، كما أكّد فريق ستارب STURP ، الفريق الاختصاصي المكوّن من أربعين عالمًا مرموقًا عاين الكفن بالعين المجرّدة لمدّة خمسة أيّام متواصلة، في العام 1978.
لكنّ الدراسات الحديثة التي قام بها العالم الأميركي كيلي كيرس Kelly Kearse ، وبعد مراجعته الدراسات السابقة استنادًا إلى التقدّم الحاصل في مجال علم الدم، تبيّن بأنّه لا يمكن تحديد نوعيّة الدم الموجود على الكفن، وبالتالي لا الفئة ولا الريسوس... ويمكن أن يعود إلى الإنسان أو إلى بعض الأنواع من الحيوانات...
يتناقض هذا القول مع المعلومات التاريخيّة، ومع تعليم الكنيسة الكاثوليكية، بخاصّة ما جاء في المجمع الڤاتيكاني الثاني بأنّه «وإن تكن سلطات اليهود وأتباعها هي التي حرّضت على قتل المسيح، لا يمكن مع ذلك أن يُعزى ما اقترف أثناء آلامه، إلى كلّ اليهود الذين كانوا يعيشون آنذاك دونما تمييز ولا إلى يهود اليوم».
إنّ اضطهاد المسيحين تمّ على يد بعض الأباطرة الرومان، ولفترات متقطعة، طوال القرون الثلاثة الأولى... وما زال مستمرًّا حتّى أيّامنا هذه.
قول غير دقيق.
أولاً، لا تقع الرها أو أورفا في العراق، بل في تركيا.
ثانيًا، ليس هذا المسار سوى فرضيّة قائمة بين فرضيات أخرى. كان معتمدًا في بداية الدراسات التاريخية عن الكفن لكنّه، بسبب افتقار الأدلّة، تراجع لمصلحة فرضيّة أخرى، بدأت تحظى بتأييد أكبر من المؤرخين، تقوم على انتقال الكفن من أورشليم إلى أنطاكية.
تعبير غير دقيق لأنّ استعمال كلمة «اختفى» تُجهّل الفاعل.
إنّ الكفن الذي كان موجودًا في القسطنطينية نهبه الصليبيون، كما غيره من الذخائر الثمينة، عند دخولهم المدينة، في العام 1204 إبّان الحملة الصليبية الرابعة، واصطحبوه إلى مكان مجهول، يُرجّح على أنّه أثينا، قبل أن يظهر في فرنسا بعد حوالي المئة وخمسين سنة. أُطلق على هذه الفترة التي كان فيها الكفن مجهول الإقامة تسمية «السنوات الضائعة».
يجمع المؤرّخون على أنّ العرض العلني الأوّل للكفن في أوروبا أُقيم في كنيسة مدينة ليريه Lirey الفرنسية، حوالي العام ١٣٥٥، بمسعى من الفارس الفرنسيّ جوفروا دي شارني الأوّل Geoffroie de Charny I الذي يُعتبر المالِك الأوّل المعروف للكفن في الغرب، من دون أن نعرف بالتحديد كيف حصل عليه ! ما نعرفه هو أنّ جان دي فرجي Jeanne de Vergy، زوجة الفارس دي شارني، لها صلاة قربى مع أوتون دو لاروش، أحد قادة الحملة الصليبية الرابعة، وهو الذي دخل القسطنطينية، ومن الأرجح أنّه هو من استولى على الكفن.
لم يكن الكفن مخبأً في منطقة ساڤوا، ولا معنى للتاريخ المذكور.
بعد وجوده في ليريه طوال مئة سنة تقريبًا، قام أصحاب الكفن في ليريه ببيعه إلى لويس الأوّل، دوق ساڤوا، في 22 آذار 1453، فأصبح الكفن مُلكًا لهذه العائلة، ذات النفوذ القويّ، يرافقها في تنقلاتها من مدينةٍ إلى أخرى، ومن قصرٍ إلى آخر، إلى أن استقرَّ في كنيسة مدينة شامبيري Chambery، عاصمة دوقيّة ساڤوا، في 11حزيران العام 1502 .
وفي ليل 3 كانون الأوّل العام 1532، شبّ حريقٌ في الكنيسة، فوصل إلى المكان المحفوظ فيه الكفن، وطال بعض أطرافه، مسبِّبًا بعض الخروقات في القماشة ما زالت ظاهرة حتّى اليوم. بعد فترة من الزمن، قام دوق ساڤوا بإرساله إلى دير الراهبات الكلاريّات القريب لِرَتقه في الأماكن التي أتت عليها النيران. امتدت عملية الإصلاح من 16نيسان لغاية 2أيار1534، حين أُعيد الكفن إلى مكانه في كنيسة شامبيري.
أَضف إلى هذه الأخطاء في المعلومات بعض الملاحظات المتعلّقة في الإخراج وفي التعليق الذي ألقاه الأستاذ عبدو الحلو:
- يبدأ التقرير بإظهار خارطة لبنان ومحيطه باللغة الإنكليزية. بما أنّ التقرير هو باللغة العربيّة وجب إظهار الخارطة بالعربيّة.
- ورد في بعض المشاهد كلمات ونصوص مكتوبة بالحرف الأبيض على خلفيّة فاتحة اللون، لذلك لم يتمكن المشاهد من قراءتها. من الأفضل كتابتها بالحرف الأسود.
- يمزج المعلّق بين المفردات العاميّة اللبنانية والمفردات الفصحى العربيّة، يقول مثلاً: الإيدَين والرِجلين، بدل القول: الإيدَين والإجرَين، وغيرها...
- في سياق عرض التقرير، وفيما تمرّ المشاهد المصوّرة، يأتي التعليق بكلام لا علاقة له بالمشهد. نرى أمرًا ما، ونسمع تعليقًا عن أمر آخر، فلا وجود للتنسيق بينهما.
ومع عرضي لتلك التصحيحات، أرجو ألا يتمّ بث تقرير مماثل عن كفن المسيح، كي لا تقدّم الأو تي ڤي وغيرها من المحطات التلفزيونية معلومات غير دقيقة تساهم في تضليل الناس، وتشويه الحقائق المتعلّقة بتلك الذخيرة القيّمة، بل أن تعود دائمًا إلى الاختصاصيين الذين يسعدهم المساهمة في تقديم ما عندهم من معلومات علميّة وموضوعيّة.