ليس للكنيسة موقفٌ صارم من كفن تورينو وألغازه. فهي لم تؤكِّد ولم تنفِ أن يكون هذا الكفن قد لَفَّ فعلاً جسد يسوع المسيح. إنّها منفتحة على جميع النظريّات، ولا تخاف من الأبحاث العلميّة، وتترك للعِلم أن «يحكم» على العِلم. ولكن، لا الكنيسة ولا العِلم باستطاعتهما تقديم البرهان القاطع:
- لا الكنيسة، لأنّ الإيمان هو فعل حرّ لا يُفرَض على الإنسان من خلال براهين علميّة؛
- ولا العِلم، لأنّ المنطق العلمي يحتاج إلى الاختبار للتوصّل إلى البرهان، وهذا الاختبار – أي تعذيب شخص ما مثل المسيح، وصلبه، وموته، ولفّه بكفن من الكتّان، وقيامته من بين الأموات، وتركه آثار آلامه على النسيج – هو أمر مستحيل.
وعلى الرغم من عدم اتّخاذ الكنيسة موقفًا رسميًّا عقائديًّا إيجابيًّا من كفن تورينو، فذلك لم يمنع الكثير من القدّيسين والبابوات من تكريمه. وقد تكلَّمنا سابقًا عن القدّيس شارل بوروميه والحجّ الذي قام به إلى تورينو، سيرًا على الأقدام، وعن القدّيس فرنسيس دي سال وإمساكه بالكفن لعرضه أمام الجمهور. نضيف إليهما قصّة القدّيسة تيريز الطفل يسوع والوجه المقدَّس التي قالت لأختها سيلين، قبيل انتقالها إلى السماء: «إنّ أوّل شيء سأطلبه من يسوع عندما أَصِل إليه هو كشف وجهه للعالم». وهكذا صار، إذ في الوقت الذي انتقلت فيه تيريزيا من هذا العالم إلى الحياة الأبديّة، حصل المصوِّر سِكُندو بيّا على الإذن للقيام بمهمّته التصويريّة، فاستطاع، بعد بضعة أشهر، إظهار وجه المسيح للعالم، فتحقَّق طلب القدّيسة تيريزيا.
أمّا البابوات فما برح العديد منهم، منذ القرون الأولى وحتّى أيّامنا هذه، يكرِّمون الكفن: فغريغوريوس الكبير (540-590-604) كان يوجِّه صلاته دومًا إلى الوجه المقدّس؛ وسرجيوس الرابع (...-1009-1012) شَيَّد، في روما، كنيسة الكفن المقدس؛ ويوحنا الثاني والعشرين (1245-1316 - 1334) كتب، العام 1334، نشيدًا للكفن المقدّس؛ ويوليوس الثاني (1443-1503-1513) أَعلن، العام 1506، أنّ الرابع من أيار هو عيد للكفن المقدّس، ووافق على رتبة وقدّاس خاصَّين بالمناسبة؛ أمّا بيّوس السابع (1742-1800-1823) فقصد تورينو قبل روما، بعد رجوعه من النفي في فرنسا، وركع أمام الكفن المقدّس؛ وبيّوس الحادي عشر (1857-1922- 1939) كان يعطي زوّاره صورة وجه الكفن «أجمل وأغلى ما يستطيع المرء تصوّره»؛ وبولس السادس (1897-1963-1978)، في أثناء تقديم العرض المتلفز سنة 1973، قال: «بينما نحن مجتمعون حول ذخيرة ثمينة، ينمو فينا انجذاب غريب لشخص سيّدنا يسوع المسيح»؛ أمّا يوحنا بولس الثاني (1920-1978-2005) فقد كتب في السّجل الرّسمي، إبَّان زيارته لِكَفن تورينو، ما يلي: «إنّ هذا الشرشف لهو حقًّا علامة فريدة وإلهيّة لعصرنا، على وجود يسوع فيما بيننا»؛ وأثناء حبريتّه الطويلة زار تورينو مرّات عديدة، ورَحل من هذه الدّنيا دون التوصّل إلى تحقيق أُمنيته الغالية في أن يلتقي ألكسي الثاني، بطريرك موسكو، تحت أقدام الكفن المقدّس في تورينو.
أمّا البابا بنديكتُس السادس عشر، فكانت له مداخلات إيجابيّة عن كفن تورينو، منذ ما قبل انتخابه إلى السدّة البابويّة، حين كان لم يزل الكردينال جوزف راتزنغر، عميد مجمع العقيدة والإيمان:
- في خطابه إلى المؤتمر الذي دعت إليه حركة «اتحاد وتحرّر» المنعقد في مدينة ريميني Rimini الإيطاليّة، في شهر آب العام 2002، قال ما يلي: «...الذي هو الجمال بذاته، ترك ذاته كي يبصقوا في وجهه، ويلطموه، ويكلّلوه بالشوك... يمكننا أن نتخيّل ما جرى له، لكنّ كفن تورينو يساعدنا على رؤية ما حصل بشكل واقعي».
- وفي التأملات التي أعدّها لدرب الصليب الذي أقيم في الكولوسّيو - روما يوم الجمعة العظيمة العام 2005، وترأسه البابا يوحنا بولس الثاني، كتب في المرحلة الحادية عشرة ما يلي: «يسوع مسمّر على الصليب... إنّ كفن تورينو يكوّن لدينا فكرة عن بربريّة هذا الأسلوب غير المعقولة».
- وما أن انتخب بابا على الكنيسة الكاثوليكيّة، تحت اسم بنديكتُس السادس عشر، حتّى سمح بإجراء العرض العلني للكفن الذي أقيم في تورينو، في أيار 2010، وقد حجّ إليها شخصيًّا، وأمضى فيها يومًا كاملاً، زار فيه الكفن المعروض في الكاتدرائية، واحتفل بالذبيحة الإلهيّة مع الشبيبة في ساحة المدينة، وزار مأوى العجزة والفقراء. وفي التأمّل الذي قام به أمام الكفن قال: «يمكننا القول بأنّ الكفن هو أيقونة... السبت العظيم... يقدّم لنا كفن تورينو صورة جسده (يسوع) الممدّد في القبر، أثناء تلك الفترة، التي كانت قصيرة (حوالي اليوم والنصف)، ولكنّها كبيرة ولامتناهية في قيمتها ومعناها... ماذا يقول لنا الكفن المقدّس؟ إنّه يكلّمنا من خلال الدم، والدم هو الحياة! الكفن هو أيقونة مكتوبة بالدم؛ دم إنسان جُلد، وكُلّل بالشوك، وصُلب، وطُعن جنبه الأيمن. صحيح أنّ الصورة المطبوعة على الكفن هي صورة ميت، ولكن الدم يتحدث عن الحياة التي فيه».
- وها هو يتكلّم عن الكفن مرّة أخرى، في الجزء الثاني من كتابه «يسوع الناصري» حيث يقول:
«فيما الإزائيّون يتكلّمون عن قطعة من كتّان، بالمفرد، يتكلّم يوحنا عن لفائف من كتّان، بالجمع (راجع يوحنا 19 : 40)... إنّ مسألة المطابقة بين هاتين الروايتين، من جهة، وكفن تورينو، من جهة أخرى، لا لزوم للتوقّف عندها، لأنّ شكل هذه الذخيرة يمكنه، بالمبدأ، التناغم مع هاتين الروايتين».
نلفت النظر إلى قول البابا عن الكفن، وللمرّة الأولى، بأنّه «ذخيرة»، ما يعطي قيمة معنويّة كبيرة له.
في السياق ذاته، قام المونسينيور جيوسيبي غيبارتي، رئيس اللجنة الأبرشيّة للمحافظة على الكفن، بالتعليق على هذا الأمر، وتقرأون ملاحظته في سياق التقرير عن زيارة البابا إلى تورينو.
على كلّ حال، ماذا يحصل لو برهن العلماء، بالمنطق والحجج الدامغة، أنّ كفن تورينو لم يلفّ جسد يسوع المسيح؟ هل يجحد المسيحيّون الذين علَّقوا إيمانهم بصحّة الكفن؟ كلا. فلنتذكّر قول الربّ يسوع لتوما: «طوبى للّذين آمنوا ولم يروا». والإيمان في الحقيقة، هو بشخص يسوع المسيح الحيّ، لا بالكفن أو بأيّ ذخيرة أخرى.
لكن للكفن أهمّية كبرى، لأنه يحوي أيقونة المسيح المتألِّم، ويُبرز آثار الجَلد وإكليل الشّوك و مسامير اليدين والرِجلين وطعنة الحربة. وقد حُفظ الكفن، بما عليه من الآثار، بطريقة غير مفهومة حتى الآن، ليبقى علامة لموت المسيح، وقيامته من بين الأموات.
تحديث آذار ٢٠٢٣