وحين اجتاح وباء الطاعون المدينة، وأودى بالكثيرين إلى الموت، هَبَّ الأسقف للمساعدة، وقام بنذرٍ يقضي بأن يذهب، سيرًا على الأقدام، إلى شامبيري، حيث يوجد الكفن، في حال توقّف الطاعون عن الفتك برعاياه.
ولَمّا بدأت المدينة تتعافى، قرّر الوفاء بنذره. وبما أنّه كان منهك القوى، نتيجة جهوده المضنية في إسعاف المؤمنين، بادر الدوق إيمانويل فيليبير دي سافوا، مالك الكفن حينذاك، بنقله من شامبيري البعيدة إلى تورينو القريبة، لكي يجنّب الأسقف مشقّة السفر عبر جبال الألب، واعدًا أهالي شامبيري بردّ الكفن إلى مدينتهم، بعد أن يختتم الأسقف زيارته.
للقيام بالزيارة، اصطحب الأسقف اثني عشر رجلاً اختارهم من بين التقويين المخلصين، وسار معهم مدّة أربعة أيّام. وفي يوم الأحد الواقع فيه الثاني عشر من تشرين الأوّل العام 1578، ترأس الأسقف العرض العلني للكفن، وقاد الجمهور في الصلوات التي رُفعت للمناسبة، وقام الدوق بتقديم نسخة عن الكفن إلى الأسقف المحبوب، ما زالت محفوظة في مصلّى مدينة إينزاغو Inzago بالقرب من ميلانو.
أغوستينو كوزانو Agostino Cusano كان أحد المختارين الذين رافقوا الأسقف في مسيرته. دَوّن ما شاهده وعاشه في هذه الرحلة المؤثرة في رسالة بعث بها إلى أحد الأصدقاء الحميمين غير الإكليريكيين، ولو أنّه منهم لكان كوزانو استعمل لقب «المحترم» أو «الموقر» أو «الجليل». عُيّن كوزانو كردينالاً في العام 1588. جاء في رسالته* ما يلي:
كنتُ مع السيّد بومبونيو Pomponio في رحلة حجّ إلى تورينو، لمشاهدة الذخيرة الأندر في العالم وتكريمها، ألا وهي الكفن المقدّس الذي لُفّ به جسد مخلِّصنا، ودُفن فيه.
ذهب رئيس الأساقفة الجليل والنبيل، الكردينال بُورّومِيو1، إلى هناك، سيرًا على الأقدام، مع اثني عشر حاجًّا. أمّا نحن، كوننا أقلّ تقشّفًا منه، فقد ركبنا العربة. إستُقبل سيّدنا النبيل من قِبَل دوق سافوا بكلّ احترام، ثمّ التقاه رئيس اساقفة تورينو أوَّلاً، ومن بعده كردينال فِرشيللي، وأخيرًا سُموّ الدوق، والأمير، والحاشية كلّها وقوفًا، والدركيّون، وبعض الخيّالة، وعند دخولهم أُطلقت المدافع مدويّة في الأجواء.
كان القصر الذي سكن فيه سيّدنا الجليل مزدانًا بفروش من الذهب واللآلئ الثمينة. وقد تَقبَّل الكردينال الطيّب جميع التشريفات التي أُقيمت له، بكلّ محبّة وتقوى مسيحيّة، من دون ان يرفض أيًّا منها، حسب ما تفرضه أصول الضيافة المسيحيّة.
بعد استراحة يوم كامل، عُرض أمامنا النسيج المقدّس بشكل خاصّ، ممدَّدًا على طاولة كبيرة، حيث أدَّينا له كلّنا شعائر التكريم، ونحن راكعون، لمدّة ساعة كاملة، قضينا قسمًا منها نستمع الى مواعظ حارّة، والقسم الآخر قضيناه في تأمّلات تقويّة. ثمّ نهضنا كلّنا ونظرنا إليه بكلّ انتباه، وتأملناه بكلّ احترام، عن قريب وعن بعيد، تارة من هذه الجهة، وطورًا من الجهة الاخرى، مشدوهين بهذا المنظر الباعث إلى الورع، وفي الوقت نفسه، إلى الشفقة.
في الأحد التالي، تَمَّ التطواف بالنسيج المقدَّس، إنطلاقًا من الكاتدرائيّة إلى «ساحة القصر» حيث احتشد جمعٌ غفير، من الصعب إحصاؤه، أتى من كلِّ منطقة وجوار، ملأ الساحة الضخمة بشكل كثيف، فلم يعد يرى المرء سوى الرؤوس، كما في مشهد الدينونة الاخيرة، وقد قُدِّر الناس بحوالي الاربعين ألفًا. عُرضت الذخيرة المقدّسة على منصّة كبيرة، مزدانة بوفرة، بينما تعالت النداءات الى السماء، صارخة «الرحمة».
شارك اثنان من الكرادلة في التطواف: الكردينال بُورّومِيو، وكردينال فرشيللي، واثنان من رؤساء الاساقفة، الأوّل على تورينو والثاني على سافوا، وستة مطارنة آخرون، وجناب الدوق، والأمير، وغيرهم من أشراف البلاط.
بعد ذلك، أُعيدت الذخيرة المقدّسة إلى الكاتدرائيّة، ووُضعت في مكانٍ عال، مع مصابيح كبيرة، ثمّ بدأت فورًا صلوات "الأربعين ساعة"، نسبة إلى المدّة التي قضاها مخلّصنا في هذا الكفن، منذ لفّه فيه وحتّى دفنه، وتواصلت الصلوات نهارًا وليلاً. كانت الرعايا المختلفة تتناوب على مراحل الصلاة، مع الاخويّات والجمعيّات التي كانت تصل تباعًا بتطواف. ومن حين إلى آخر، كانت تُلقى المواعظ عن هذه الذخيرة المقدّسة، تارةً بلسان الكرادلة، وطورًا بلسان الاساقفة، أو غيرهم من الرهبان، وكان جناب الدوق والأمير يحضران بشكلٍ شبه دائم.
عند الفراغ من صلوات «الأربعين ساعة» قام الكرادلة، ومعهم اثنان من رؤساء الأساقفة، بتطواف جديد للنسيج المقدّس، لابسين حِللهم الحبريّة، وكان الأساقفة يمسكون المظلّة، يرافقهم الدوق والأمير، لابسين ثياب القدّيس لعازر، سائرين كلّهم مع الخيّالة إلى السّاحة ذاتها، حيث عُرض الكفن أمام الناس، ممسوكًا من على المنصّة، ثمّ أُعيد إلى الكاتدرائيّة. وبعد أن أُعلم الدوق عن مجيء أربعة آلاف من «الهوغونوتيون»2 القاطنين في مقاطعته سافوا، لكنّهم قادمين من وادي «اونغرونيا»، على الحدود السويسريّة، ليشاهدوا الكردينال بُورّومِيو وحسب، أراد الإستفادة من هذه المناسبة، وطَلَبَ أن تستمرّ صلوات «الاربعين ساعة» والمواعظ الاعتيادية، علّه تحصل بعض الاهتداءات فيما بينهم. لذلك، استمرّ الكردينال بالصلاة زهاء الساعتين، وسط سكوت تام، وانتباه عميق، أثارا العجب في تجمّع كهذا.
عند المساء، أُعيد النسيج المقدّس إلى مكانه، ودُعي الجمهور إلى الانصراف. وفي اليوم التالي، تَسنَّت لنا الفرصة للعودة ومشاهدة الكفن مرّة اخرى، بشكلٍ خاصّ، لينطبع ذكره في قلوبنا وحواسِّنا.
إنّ رؤية النسيج المقدّس لشيئٌ مدهش، وهو المصنوع من مادّة غير معروفة، هي كتّان جيّد برأي البعض، إذ يبدو ناعمًا كالحرير، وما زال كاملاً وغير متضرِّر، بعد ألف وخمسمئة عام.
والمدهش أكثر من ذلك، أن نرى مطبوعة أمام أعيننا، صورة الجسم الحقيقيّ لسيّدنا، وشكله الطبيعيّ، مع كامل مقاسه، ونرى العلامات وآثار الندوب والجروحات التي تَحمَّلها من اجل خطايانا. وأقول إنَّه لم يُطبع بيد رسّام، ولا بألوان متنوّعة، بل أنّ جسده هو الذي رسمه على النسيج، وختمه بطريقة عجائبيّة.
إنّها لمعجزة، أن يكون قد نشب حريق في «الكنيسة المقدسة» حيث كان محفوظًا، أدّى إلى احتراق الخزنة، وذوبان الفضّة، مع وصول النار الى النسيج المقدّس نفسه، من دون ان يتضرَّر أيّ جزء من الصورة، مع أنّ أجزاء أخرى عديدة منه قد احترقت، كما يشاهد المرء الآن. حصل هذا منذ سنوات عدّة، في شامبيري، حيث هي «الكنيسة المقدّسة».
إذا كانت الذخائر الأخرى تَحظى بقدرٍ كبيرٍ من الشرف والتكريم، فكم بالحري هذه الذخيرة التي هي فريدة، ولا وجود لمثلها في العالم كلّه، إذ هي لامَسَت، ليس فقط جزءًا من جسد السيّد، بل كلّ الاعضاء، وكامل الجسم الذي لُفَّ بها لمدّة طويلة؛ ولأنَّها أيضًا صورة السيّد الحقيقيّة والطبيعيّة، التي انطبعت بشكلٍ عجائبي، مع علامات جروحاته المقدّسة، وحتّى أكثر من ذلك، بسبب الدم الغالي الذي لَوَّن أماكن عديدة، وبَلَّلها بغزارة.
باستطاعة المرء القول بأنّ هذه النواحي الثلاث هي التي تجعل هذه الذخيرة، ليس فقط أهلاً للتكريم، بل فريدة من نوعها في العالم، وأكبر قيمة من غيرها. أمّا بالنسبة لتأكيد صحّتها بشهادة مكتوبة، فإنّها لا تحتاج الى أيّ موافقة، لانّها تحمل ضمنًا شهادة أصلها، من خلال الصورة التي خُتمت عليها بمعجزة، وشهادة الباباوات العديدين الذين منحوها الامتيازات والغفرانات، أمثال سيستوس الرابع، وبولس الثاني، ويوليوس الثاني.
وفي هذه اللحظة، نتأمّل مندهشين ومتعجبين من حبّ المسيح لنا، وقد أراد أن تبقى ذكرى آلامه المقدّسة حيّة ودائمة، بالإضافة إلى منافع فدائه العالم، وهو لم يترك لنا فقط مادة جسده الحقيقيّ والطبيعيّ في سرِّ القربان المقدّس، بل أيضًا، شكل جسده الظاهر على هذا النسيج المقدّس، الممكن إدراكه بالحواسّ، مضيفًا ذكرى على ذكرى، ورهانًا على رهان، بحيث تتوافر لنا الإمكانية لكي يتغذّى الإنسان الداخلي، أي العقل والعاطفة، بالسرّ المقدّس، والإنسان الخارجيّ أيضًا، بكلِّ حواسه، بهذا الكفن المجيد.
فليعطنا الربّ النعمة لكي نراه هو، ممجَّدًا خالدًا في السماوات، باستحقاقات آلامه المقدسة، بعد أن تسنّى لنا مشاهدة آلامه العظيمة، ومثل هذا الموت من أجل خطايانا؛ ولنصلّي كي يمنحنا هذا الإيمان الحيّ، ورجاء المرأة القدّيسة الوارد ذكرها في الإنجيل حين قالت: لو أستطيع لمس طرف ردائه فسوف أخلص. ونحن الذين أُعطي لنا، لا أن نرى وحسب، بل أن نلمس ونقبِّل، لا طرف ردائه الخارجيّ فقط، بل الرداء الذي لامس جميع أعضاء سيّدنا المقدسة، ونقبِّل دمه الحقّ، كيف يجوز لنا أن لا نأمل خلاص نفوسنا؟
بالإضافة إلى ذلك، وإرضاءً لتقوى سموِّكم، سوف أذكر لكم بعض التفاصيل الأخرى، وأخبركم كيف يَظهر أمامنا هذا الشكل المقدّس.
كما كتب المؤرِّخ اليونانيّ الكبير نيقيفورس كاليستوس3، بخصوص صورة السيّد، فإنّ طول الجسم ثلاثة أذرع بحسب المقاييس المعتمدة عندنا في ميلانو، ويزيدني بأربعة أصابع أو ما يوازي كفًّا واحدًا، وتبقى تفاصيل الجسم بحسب النِسَب الصحيحة. إنّ الوجه مستطيل على الأرجح، واللحية قصيرة ومنقسمة إلى اثنين؛ الشعر طويل، ويتدلّى إلى ما تحت الأذنين؛ الوجه، عندما ينظر المرء إليه، يستدعي الهيبة؛ بقيت بعض آثار إكليل الشوك على الجبين، مع بعض سيلانات الدم الواصلة إلى ما فوق العينين؛ إنّ جرح الجنب هو إلى الجهة اليمنى، عرضه ثلاثة أصابع تقريبًا، وهناك دم غزير بقدر عرض كفّ اليد؛ آثار المسامير في اليد ليست في وسط اليد، بل عند آخر الوصلة مع الزند، وهي بقياس أصبع كبير، والدم غزير بحجم البيضة؛ اليدان الواحدة فوق الأخرى، والذراعان كأنّهما بلا جِلد عليهما، ومغطسان بالدم، من الوسط وإلى الأسفل؛ كذلك القدمان، عليهما آثار المسامير التي دخلت، ليس في الوسط، بل عند الوصلة مع السيقان، حيث الدم الغزير، كما عند اليدين.
وبما أنّ النسيج المقدّس قد لُفَّ حول الجسم كلّه، فقد طُبع عليه شكلان، واحد للجزء الأمامي من الجسد، والآخر للجزء الخلفي، حيث يشاهد المرء بوضوح آثار السياط التي وقعت بكثافة أكبر على الكتفين اللذين يبدوان مرضوضتان.
إنّ الشكل بكامله غامض المظهر، مثل الظلّ القاتم اللون، أو مثل رسم إعدادي تراه حينًا على شكل ما، وحينًا على شكل آخر، مولّدًا في نفس المشاهد رغبة كبرى وعجلة لمشاهدته مرّة أخرى على نحو أفضل. تارة نراه بشكل أفضل عن قريب، وطورًا نراه أفضل عن بعد. إنّ بقع الدم في كلِّ مكان، بحيث تنطبق عليه الكلمات التالية: «كيف يصبح الذهب قاتمًا، وليس له زينة ولا شكل».
أيّها الربّ الرحوم، كيف يمكن للمرء أن يذكر جميع هذه الأمور من دون دموع، فالأفضل له أن يهدأ، ويتأمل بصمت، عوضًا عن التكلّم بطريقة سطحيّة ودون فائدة.
إنّ طول النسيج المقدّس هو ستة أذرع بحسب مقاييسنا، وعرضه ذراعان ونصف.
هذا إذًا ما أردتُ قوله لسيادتكم، بطريقة عفويّة، وبشكل سريع، وبأسلوب ربّما خلا من الترتيب والتنظيم، عن الذي حصل لي مع هذه الذخيرة المقدّسة، وهو جديرٌ بأن يُعرف. أرجو سيادتكم قبول هذا التقرير الصادق، ولو كان مكتوبًا بشكل سيّئ وبسرعة، لأنّني لا أشعر معكم بأي إحراج عندما أكشف عن نواقصي.
وليتمجَّد الربّ.
ميلانو، في 25 تشرين الأوّل 1578
* نقلها الى العربية، فارس حبيب ملكي، عن النص الانكليزي الصادر في مجلة Shroud Spectrum، العدد 26، العام 1988.
1 هو القدّيس شارل بوروميه (1538-1584)، رئيس أساقفة ميلانو. 2 أُطلق لقب الهوغونوتيون على بروتستانت فرنسا خلال القرن السادس عشر حين كانوا بصراع مع الكاثوليك. 3 عاش نيقيفورس كاليستوس، آخر مؤرخي الكنيسة في اليونان، في القرن الرابع عشر، وقد جاء في كتابه أنّ طول المسيح يبلغ 183 سنتم.