المَذخر
إنّ مَن يدخل كاتدرائية القدّيس يوحنا المعمدان في تورينو ليشاهد الكفن، لا يلبث أن يخيب أمله، إذ أنّه لن يرى الكفن معروضًا، فالمسؤولون عنه حريصون على المحافظة عليه، ويتجنّبون عرضه بشكل دائم، خوفًا من أعمال إرهابيّة تطاله، ومن الضرر الذي سيلحق به نتيجة تعرّضه، لمدّة طويلة، للنور وللعوامل الطبيعيّة المختلفة. لذلك يحافظون عليه ملفوفًا في مَذخر كان، سابقًا، فوق مذبح الكاتدرائية الرئيسي، لكنّهم اضطرّوأ لنقله إلى مكان آخر داخل الكاتدرائيّة، في 24 شباط 1993، بسبب أعمال الترميم الجارية على سقف الكاتدرائية وحيطانها، فوُضع الكفن، المحفوظ في مذخره التقليدي، في غرفة زجاجيّة مقاومة للنار والرصاص.
وفي ليلة 11 نيسان 1997، إندلع حريق ضخم في الكاتدرائيّة، أسبابه المباشرة غير معروفة بعد، ما اضطرّ عناصر الإطفائية الذين هرعوا إلى مكان الحريق، إلى نقل المذخر، والكفن المحفوظ فيه، إلى دارة الكردينال القريبة.
وفي شهر تشرين الثاني من العام 2000، إثر الانتهاء من العرض العلني الذي أقيم بمناسبة اليوبيل الكبير، أودع الكفن في أريكة خاصّة، صنعتها شركة ميكروتكنيكا Microtecnica الإيطاليّة، حيث تمّ بسط القماشة عليها، في جوّ من الغاز الخامل. ثمّ وُضعت الأريكة في مَذخر جديد، صنعته شركة ألينيا Alenia الإيطالية للملاحة الجويّة، خفيف الوزن، ذهبيّ اللون، مقاوِم للحريق، فوقه غطاءٌ فاخر، كُتب عليه باللاتينية ما يلي:
TUAM SINDONEM VENERAMUR ET TUAM RECOLIMUS PASSIONEM
وما معناه: «يا إلهنا، إنّنا نُكرّم كفنك المقدّس، ونتأمل في آلامك». وما زال الكفن محفوظًا في الكاتدرائيّة حتّى اليوم، في كابيلا صغيرة تقع إلى الشمال من المذبح الرئيسي.
القماشة
إنّ الكفن مصنوع من كتّان، يُقال له بالفرنسيّة Lin ، وبالانكليزية Flax ، وهو أنواع. من المرجّح أنّ النوع الذي استُعمل في نسيج الكفن هو كتّان برّي Linum angustifolium ، وهو غير كتّان شائع Linum usitissimum ، المعروف بالكتّان الزراعي الصناعي المشهور.
إنّ حالة الكفن جيّدة، ولا يتأثر بالشَدّ أو الفَرك، ولونه مائل إلى الاصفرار، كلون التبن. يبلغ وزن الكفن حوالى 1،30 كغ بالاستناد إلى حسابات العالم جيلبرت رايس، والعالم روجير موريس من فريق ستارب STURP الذي قام بمعاينة الكفن في العام 1978، وسماكة القماشة 0,35 ملم بالاستناد إلى ما قاسه جون جاكسون، رئيس الفريق.
إنّ طريقة النسج من نوع «السرجه» ذي القطبات المتعرّجة، حيث يمرّ كلّ خيط في «اللحمة» تحت ثلاثة خيوط منها، وذلك بالمداورة، وبموازاة أوّل خيط زاوية، ومن ثمّ يَعبر فوق خيط من «السداة»، ليعود بالاتجاه المعاكس، وبموازاة خطّ الزاوية الثاني، راسمًا نسيجًا مصلّبًا.
تبدو قماشة الكفن مستطيلة الشكل، لكنّها ليست مستطيلاً كاملاً، إذ إنّ طول الطرف الأعلى لا يساوي طول الطرف الأسفل، وعرض الطرف الأيمن لا يساوي عرض الطرف الأيسر. وبشكل عامّ، اختلفت المقاييس على مرّ الزمن، بسبب العوامل الخارجيّة المؤثرة على تمدّد القماش أو انكماشه، إضافة إلى حرفيّة القائس في إتمام عمله. إنّ المقاييس التي دُوّنت عند الانتهاء من عمليّة الترميم التي جرت في العام 2002 والظاهرة على الصورة في هذه الصفحة هي كالتالي:
طول الطرف الأعلى = 442،5 سنتم
طول الطرف الأسفل = 441،5 سنتم
عرض الطرف الأيمن = 113،7 سنتم
عرض الطرف الأيسر = 113 سنتم
وإذا أمعنا النظر في قماشة الكفن، نرى أنّها مؤلّفة من قطعتين متلاصقتين من الكتّان، واحدة أساسيّة كبيرة، وأُخرى جانبيّة صغيرة، تمتدّ على طول القماشة، مرتبطة بالقطعة الكبيرة بخيط من كتّان، لكنّها ناقصة عند الأطراف: 16 سنتيمترًا من جهة الشمال، و38 سنتيمترًا من جهة اليمين. ولا نعرف كيف ومَن اقتطع تلك الأطراف الجانبيّة.
هناك ثلاث احتمالات لطبيعة تلك القطعة الجانبيّة:
- يمكن أن تكون قطعة صغيرة مستقلّة تمامًا أُضيفت إلى قطعة الكفن الأساسيّة الكبيرة لغرض غير معروف.
- أو كانت جزءًا من قطعة الكفن الأساسيّة الكبيرة، لكنّها اقتُطعت لسبب غير معروف بعد، ثمّ أُعيدت إلى مكانها.
- أو هي جزء من قطعة الكفن الأساسيّة ما زالت موجودة في مكانها وجرى ثنيها في المكان الظاهر أو خياطة جزء منها بشكل أنبوب لغرض ما زال مجهولاً حتّى اليوم.
إنّ الصور الكبيرة التي أخذها فريق ستارب والتي تبيّن المنطقة المشتركة بين القطعة الكبيرة والقطعة الجانبية الصغيرة تميل إلى اعتماد الاحتمال الثالث.
وحتّى العام 2002، حين بدأت عملية الترميم الأخيرة للكفن، لم يكن بالمستطاع معاينة الجهة الخلفيّة للنسيج، بل كان العلماء والزوّار يكتفون بمعاينة الجهة الأماميّة فقط، حيث آثار الإنسان المصلوب، وذلك لسببين:
- وجود بطانة، سمّيت «بطانة هولنده»، خيطت بالقطبة الصغيرة، العام 1534، بيد الراهبات الكلاريات، بهدف شدّ نسيج الكفن عليها، لتلتصق به تمامًا، وتصبح سندًا له، وبالتزامن مع الرقع التي وضعتها الراهبات على الخروق التي سبّبها الحريق في شامبيري.
- وجود غطاء من المخمل الأحمر، غير ملتصق بالكفن، وضعته الأميرة كلوتيلد دي ساڨوا، العام 1868، بدلاً من الغطاء الأسود اللون الذي كان قد وضعه الطوباوي سيباستيان ڤالفريه، بطريقة غير موفقة، في العام 1694 .
لكنّه، في العام 1978،إستطاع علماء فريق ستارب استراق النظر إلى الجهة الخلفية من النسيج، بعد أن حصلوا على الإذن لفكّ بعض القطب من «بطانة هولنده»، قامت به إحدى الراهبات الكلاريات، بطول 8 سنتم، من دون التمكن من معاينة شاملة ووافية للجهة الخلفيّة.
أمّا في العام 2002، فتمّ نزع الغطاء الأحمر وفكّ «بطانة هولنده»، وتمكّن العلماء من إجراء مسح شامل بواسطة السكانير للجهة الخلفيّة للكفن، ثمّ وضعت بطانة جديدة من الكتّان، ذات اللون العاجي، لم تخضع لأيّة عملية تبييض أو تلوين اصطناعي، خيطت على الجهة الخلفية بطريقة محترفة.
آثار جسم الإنسان
من الآثار اللافتة على قماشة الكفن هي شكل إنسان، نرى جسمه كاملاً من الأمام، يداه الواحدة فوق الأخرى، رجلاه ممدودتان، شعره مُسدَل على وجهه، له شاربان، ولحية منتوفة في الوسط. كما نراه كاملاً من الوراء، تنتشر على طول جسمه بقعٌ حمراء من الدم، أشدّ كثافة عند مؤخّر الرأس.
إنّه شكل إنسان مصلوب، في يداه ورجلاه أثرٌ لمسامير، وعلى رأسه آثار نزيف قويّ ناتج عن غرز أشواك (؟) حادّة فيه، وعلى ظهره علامات جَلد، وفي جنبه الأيمن أثر طعنة حربة. وقد أكّد ذلك أطباء الأدلّة الجنائية المتخصّصون بتشريح الجثث.
الآثار الأخرى
إنّ مَن ينظر إلى الكفن، يسترعي انتباهه، للوهلة الأولى، خطّان باللون القاتم، على طول القماشة، وهذا ناتج عن الحريق الذي تَعرَّض له الكفن في 4 كانون الأوّل العام 1532، عندما كان محفوظًا في مدينة شامبيري - فرنسا Chambéry ، ومطويًا داخل خزنة صغيرة، وموضوعًا في كنيسة تلك البلدة. أُنقذ الكفن من الحريق ولكن، لشدّة الحرارة، سقط قسمٌ من غطاء الخزنة على الكفن فخرقه، كما أنّ جهة من الكفن «تشوشطت»، فظهر ذلك بشكل خطَّين باللون القاتم لَمّا فُرش الكفن. أمّا الخروق فبلغ عددها 30.
ونلاحظ أيضًا خطوطًا طويلة وقصيرة، ناتجة عن طيّ القماشة التي حُفظت مدّة طويلة على هذا الشكل.
ونلاحظ بعض الثقوب الصغيرة، بشكل L ، التي قيل إنّها ناتجة عن محراك للحطب (محكشون) غرزه أحد المشكّكين ليمتحن به قدرة القماشة على الصمود بوجه النار، لذلك سُمّيت Poker holes . والأرجح أنّها آثار بعض البخور الذي سقط على القماشة أثناء عمليّة تبخير الكفن، تماشيًا مع التقليد الذي يقول بأنّ الكفن كان يُفرش على المذبح للاحتفال بالذبيحة الإلهيّة.
وهناك أيضًا آثار بقع صغيرة من الماء، على طول الخطين القاتمَي اللون، حصلت من جرّاء الماء الذي قُذف على الكفن من قِبَل الذين قاموا بإخماد حريق العام 1532، ويُشار إليها بالحرف A على الصورة. أمّا بقع الماء الأخرى الكبيرة، الظاهرة في وسط الكفن - عددها خمسة - والصغيرة، الظاهرة على الجوانب - عددها ستة في كلّ جانب- والمشار إليها بالحرف B على الصورة، فهي ناتجة عن حدث آخر، لأنّ آثارها على القماشة لا تتوافق مع آثار الطيّات التي كانت موجودة حين حصول الحريق. لا نعرف بالظبط طبيعة هذا الحدث، ولا متى حصل، لكنّه قديمٌ حتمًا.
بالرغم من أضرار الحريق والعلامات الفارقة، فإنّ شكل الإنسان ما زال واضحًا، ولمعاينته، وجب علينا حصر النظر ما بين الخطَّين القاتمَي اللون، على مسافة أبعد من مترين، وأقرب من عشرة أمتار. ولا يسعنا إلاّ التأسّف على تلاشي الآثار مع الزمن، إذ بدأت تفقد من وضوحها، ويُخشى أن تزول في حال لم يتمكّن العلماء من إيجاد الطريقة الفعّالة للمحافظة عليها.
تحديث آذار ٢٠٢٣