ملاحظة الناشر
يتكلّم الأنطاكي عن منديل مسح به المسيح يسوع وجهه، كان محفوظًا في مدينة الرّها، استولى عليه الروم، ونقلوه إلى القسطنطينية. يقدّم العالم يان ولسون فرضيّة تقول بأنّ هذا المنديل ليس هو إلاّ الكفن ذاته الذي كان مطويًّا عدّة طيّات، وموضوعًا في إطار صغير بحجم المنديل، بحيث لم يظهر سوى وجه المسيح. وفيما يلي ما كتبه الأنطاكي عن الموضوع:
... وفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة (942 م) وافت جيوش الروم إلى ديار بكر، وسبوا من أهلها جماعة كثيرة، وفتحوا أرزن1، وأخربوا عامّة بلدها، وبلغوا قرب نصيبين2، والتمسوا من أهل الرّها أن يدفعوا لهم أيقونة المنديل الذي كان سيّدنا يسوع المسيح مسح به وجهه، وصارت صورة وجهه فيه. وبذل لهم الروم أنّهم إذا سلّموهم هذا المنديل، أطلقوا من أسرى المسلمين الذين بيدهم عدادًا ذكروه لهم.
فكاتبوا المتّقي3 ببغداد بذلك، وعرض الوزير أبو الحسن بن مقلة على المتّقي، الوارد في هذا المعنى، واستأذنه فيما يعمله. فأمره بإحضار القضاة والفقهاء واستفتائهم في ذلك، والعمل بما يقولون.
فاستحضرهم الوزير أبو الحسن بن مقلة، واستحضر علي بن عيسى، والوجوه من أهل المملكة، وعرّفهم ما ورد في هذا المعنى، وسألهم عمّا عندهم فيه، وجرى في ذلك خطاب طويل، ذكر فيه بعض مَن حضر حال هذا المنديل، وأنّه منذ الدهر الطويل في كنيسة الرّها، لم يلتمسه ملك من ملوك الروم، وإنّ في دفعه غضاضة على الإسلام، والمسلمون أحقّ بمنديل عيسى عليه السلام، وفيه صورته.
فقال علي بن عيسى، مدبّر المملكة: إنّ خلاص المسلمين من الأسر، وإخراجهم من دار الكفر، مما يقاسونه من الضّنك والضرّ أَوجب وأحقّ. ووافقته جماعة مَن حضر على قوله، وأشار هو وغيره من قضاة المسلمين بتسلّم الأسرى منهم، وتسليم المنديل إليهم، إذ لا طاقة للسلطان بهم، ولا له حيلة في استنقاذ الأسارى من أيديهم، وعمل في ذلك محضرًا، وأخذ خطوط الجماعة الذين حضروا، وعرض على المتّقي، فأمر بكتب الجواب للعمل بذلك.
واستقرّ الأمر بين أهل الرّها وبين الروم على أن دفعوا لهم مائتي نفس من المسلمين ممن كان أسرهم الروم، وشرط أهل الرّها عليهم ألا يغيروا فيما بعد على بلدهم، وعقدوا بينهم هدنة مؤبّدة، وتسلّم الروم المنديل، وحملوه إلى القسطنطينيّة، ودُخل به إليها في اليوم الخامس عشر من شهر آب.
وخرج اصطفان4، والبطريرك تاوفيلقطس أخوه5، وقسطنطين6، أولاد رومانُس الملك7 إلى باب الذهب، مستقبلين له، ومشى أهل الدولة بأجمعهم بين يديه بالشمع الكثير، وحُمل إلى الكنيسة العظمى أجيّا صوفيا، ومنها إلى البلاط،8 وذلك في السنة الرابعة والعشرين منذ ملك رومانس الشيخ مع قسطنطين بن لاون.
* هو يحيى بن سعيد بن يحيى الأنطاكي، الذي توفّاه الله في العام 1067م، طبيب ومؤرّخ وبطريرك الإسكندريّة، خلفًا للبطريرك سعيد بن البطريق (876-939) الذي ألّف كتابًا في التاريخ عنوانه «نظم الجواهر»، فأتى الخلف ليكمل تاريخ السلف. نقتبس قصّة منديل الرّها من كتابه : تاريخ الأنطاكي، المعروف بصلة تاريخ أوتيخا، حقّقه وصنع فهارسه أستاذ دكتور عمر عبد السلام تدمري، جرّوس برس، طرابلس - لبنان، 1990، صفحة 41-43.
1 مدينة مشهورة في أرمينيا، لها قلعة حصينة.
2 مدينة في تركيا كانت مركزًا للآداب السريانيّة.
3 هو الخليفة العبّاسي المتّقي لله (941-943)
4 هو اصطفان لوكابينس، المشارك في العرش، من العام 924 حتّى العام 945. توفّي العام 967.
5 بطريرك القسطنطينيّة من العام 933 حتّى العام 956 .
6 هو قسطنطين لوكابينس، المشارك في العرش، من العام 924 حتّى العام 945. توفّي العام 946.
7 هو رومانس الأوّل لوكابينس (920-944)
8 كانت مجموعة الذخائر محفوظة في القصر الملكي في البوكوليون، في الكنيسة الخاصّة بالأباطرة البيزنطيين على اسم العذراء مريم في الفنار.