من المرجّح أن يكون الصلب قد بدأ في بلاد فارس حيث يروي المؤرّخ اليوناني هيرودوتس (484-425 ق. م.) صلب ثلاثة آلاف بابلي من قبل داريوس الأوّل (522-486 ق. م.) ملك فارس. من هناك، تعرّف عليه الاغريق، فاستعمله الإسكندر المقدوني الكبير (356-323 ق. م.) ضدّ الناجين من حصار صور في لبنان. ثمّ اعتمده القرطاجيون، ونقله الرومانيّون عنهم .
لدى الرومانيين، كان الصلب مخصّصًا للطبقات الدنيا، مثل العبيد واللصوص والغرباء... والصلب هو الاكثر قساوة بين العقوبات المعتمدة، يليه الحرق، ثمّ قطع الرأس، فالرمي للحيوانات المفترسة. بعد ثورة سبارتاكوس، صَلب كراسوس (115-53 ق. م.)، أحد حكام روما الثلاثة، ستة آلاف أسير على الطريق بين روما وكاپوا. واستنادًا إلى المؤرّخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس (37-100 ب. م.) فإنّ القائد الرومانيّ تيطس (39–81) كان يقوم بصلب خمسمائة يهودي في اليوم الواحد، أبّان حصار أورشليم في العام 70:
«أُلقي القبض على يهوديّ في أثناء غارة، فصلبه تيطس مواجهًا للسور، لأنّ الآخرين سيفزعون من هذا المنظر... وحين كانوا (اليهود) على وشك السقوط (في أيدي الرومان)، كانوا يُجبَرون على الدفاع عن أنفسهم. وبعد المعركة يفوت أوان طلب العفو، فيُجلَدون، ويَخضعون قبل الموت إلى جميع أنواع التعذيب، ثمّ يُصلبون مواجهةً للسور. لا شكّ أنّ آلامهم أثارت الشفقة في نفس تيطس. ولكن، بما أنّ عددهم كان كبيرًا جدًّا، وقد بلغ حتى الخمسمئة في كلّ يوم، ومن الخطر إطلاق سراحهم أو الاحتفاظ بهم، ترك جنوده يتصرَّفون كما يشاؤون، خصوصًا وأنّه أَمِلَ بأنَّ مشهد الصلبان الرهيب سيحثّ المحاصرين على الاستسلام. وجعل الجنود يهينون الأسرى من شدّة غضبهم وحقدهم، فيصلبون كلّ واحد في وضعيّة مختلفة. وبسبب العدد الكبير، لم يبقَ أماكن للصلبان، ولا صلبان للأجساد».1
كانت الألسن تتداول أخبار المصلوبين، فتناولَها المؤرّخون الرومان في أعمالهم، والأدباء في مسرحيّاتهم (كان يقوم بدور الضحيّة مجرم حقيقيّ يُصلَب في آخر المسرحيّة)، أمثال تيطُس ليفيوس (59 ق.م.-17 م)Tite-Live ، وتاقيطس (55-120) Tacitus، وبلاوتوس (254 ق.م.– 184 ق.م.) Plaute ، وشيشرون (106ق.م.–43 ق.م.)Ciceron الذي هاله شناعة الصليب وفظاعته، فكتب في أحد مؤلفاته:
«لو هَدَّدونا بالموت، فَلنَمُت أحرارًا على الأقلّ. أجل، فليبتعد الجلاّد والحِجاب على الرأس وحتّى ذكرُ الصليب، لا عن الرومانيّين وحسب، بل عن أفكارهم وعيونهم وآذانهم. لأنّ في هذه العذابات، ليست مسألة الإعدام هي التي لا تليق بمواطن رومانيّ وبإنسانٍ حرّ، بل طبيعتها والانتظار فيها وحتّى اسمها».2
القديس أوغسطينُس، الذي علم بعمليات الصلب الرومانية، قال: «ما من موت عنيف أرهب من الموت على الصليب».
ومع أنّ الصلب توقّف في الغرب خلال القرن الرابع، بشكل كبير، وبأمر من الإمبراطور قسطنطين، لكنّ بعض الملوك والأمراء، بخاصّة في الشرق، استمرّوا في ممارسته على أعدائهم. يذكر التاريخ تعذيب الحلاَّج وصلبه سنة 922 ، ويروي صلاح الدين السيوطي3 في كتابه «المَرْج النَّضِر والأَرَج العَطِر» قصّة صلب عبد تركيّ، في دمشق، سنة 1247.
يحفل علم الآثار، في العصر الحديث، باكتشافاتٍ هامة، ساهمت في تنوير العلماء والباحثين، حول تفاصيل عمليّة الصلب. ففي سنة 1940، تمّ اكتشاف لوحة من المرمر، في مدينة بوتسوالي Pozzuoli الواقعة جنوبيّ إيطاليا، تعود إلى القرن الأوّل قبل الميلاد، حُفرت عليها قواعد عمليّة الصلب، مع واجبات «متعهّد الصلب» وعمّاله وأجورهم ومعدّاتهم و... أُطلق عليها تسمية Tabula Puteolana . تلاها، عام 1965، إكتشاف لوحةٍ أُخرى، في مدنية كومو Como الواقعة شماليّ إيطاليا، أُطلق عليها تسمية Tabula Cumana . ثمّ عُثر، لاحقًا، على مخربشات graffitis تمثّل الصلب، في عدّة مدنٍ إيطاليّة، في بوتسوالي ذاتها، وفي بومباي Pompei ، يعود تاريخها إلى القرن الميلادي الأوّل.
وفي سنة 1968، عُثر، بالقرب من أورشليم، على بقايا رجل في العقد الثالث من العمر، يُدعى يوحنان بن حزقيال، تبيَّن أنّه مات صلبًا، في الفترة التي سبقت احتلال أورشليم في العام 70م. وبالإضافة إلى هذه البقايا، عُثر على مسمارٌ طويلٌ استُعمل في صلبه، مغروز في قطعة صغيرة من الصليب، تبيّن أنّها من خشب الزيتون، التصقت بالمسمار لَمّا نُزع عن الصليب لتحرير المصلوب بعد موته. وقد استطاع العلماء، من خلال معاينتهم آثار احتكاك المسامير باليدين والرجلين، أَن يكوِّنوا صورةً عن وِضعَة جسم المصلوب، على الصليب، مكتشفين بذلك بعض التفاصيل الهامّة في عمليّة الصلب. وتجدر الإشارة، أيضًا، إلى شهادات العديد من الناجين من مخيّمات الموت الهتلريّة في أَوشفيتز Auschwitz وداخاو Dachau ، حيث كانت تجري عمليّة صلب بعض المعتقَلين.
كان الصليب مكونًا من عدّة أقسام، منها الأساسيّة الواجب وجودها، ومنها الثانوية التي يُمكن الاستغناء عنها. فالأساسيّة هي:
- عارضة عمودية stipes crucis طولها عادة متران crux humilis لكن كان بامكانها أن تتعدى هذا الطول أحيانًا crux sublimis تكون ثابتة في مكان الصلب.
- عارضة أفقية Patibulum يحملها المحكوم عليه ويمشي بها من المحكمة إلى مكان تنفيذ الحكم.
أمّا الثانوية فهي:
- كرسي الجلوس Sedile وهي نتوءة أفقية كانت تضاف أحيانًا كي يجلس المحكوم عليها لإطالة عذابه.
- كرسي القدمين Suppedaneum وهي لوحة أفقية أو عرضية لوضع القدمين.
- رقعة الحكم Titulus حيث يكتب عليها اسم المحكوم عليه وجريمته.
وكان يتمّ التثبيت على الصليب بطريقتين مختلفتين: إمّا التسمير أو الربط بالحبال، وكانت الطريقة الأوّلى هي الأكثر استعمالاً. وبسبب طرطليانس (القرن الثالث) الذي كتب: «وحده صلب بهذه الطريقة المميزة»، كانت الرسوم المسيحية غالبًا ما تظهر المسيح مسمّرًا بين مصلوبَين مربوطين بالحبال.
لم يكن الصلب شائعًا عند اليهود، إذ كانوا يستعملون الرجم حتى الموت؛ وفي بعض الأحيان كانوا يعلّقون المرجوم على شجرة: «وإذا كانت على إنسان خطيئة تستوجب الموت، فقتل وعلّقته على شجرة، فلا تبت جثته على الشجرة، بل في ذلك اليوم تدفنه، لأنّ المعلّق لعنة من الله» (سفر تثنية الاشتراع 21 : 22-23). وهذا ما حصل مع الربّ يسوع، ويذكرنا به بولس: «إنّ المسيح افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنة لأجلنا، فقد ورد في الكتاب: ملعون من علّق على الخشبة. ذلك كيما تصير بركة إبراهيم إلى الوثنيين في المسيح يسوع فننال بالإيمان الروح الموعود به» (غلاطية 3 : 13-14).
تحديث آذار ٢٠٢٣
1 راجع: الصَّليب والصَّلب قبل الميلاد وبعده، الأب سامي حلاّق اليسوعيّ، موسوعة المعرفة المسيحيّة، سلسلة قضايا، الرقم 5، دار المشرق، 1995، صفحة 10.
2 المرجع السابق، الصفحة 15.
3 عاش في القرن الرابع عشر، وهو غير عبد الرحمن السّيوطي، العلاّمة الشهير، الذي عاش في القرن الخامس عشر، وربّما كان جَدَّه.