سيّدي العزيز
لقد قرأتُ، باهتمام كبير، الكتيِّب الذي تَكرَّمتم بإرساله إليّ، وعنوانه: «آلام المسيح بحسب كفن تورينو المقدّس»، وتوقَّفتُ مليًّا عند الصور المؤثّرة المرفقة. أتمنّى أن يصل هذا الكتاب إلى عامّة الناس، وأن يساعد المجتمع المسيحي في فرنسا على وعي أهميّة هذا الحدث الديني، أي اكتشاف صورة كفن تورينو المقدّس. إنّها أهميّة كبيرة لدرجة أنّه لا يسعني إلاّ أن أشبِّهها بقيامة ثانية.
أعود بالذكرى إلى هذه الحقبة المظلمة من التاريخ، الممتدّة من العام 1890 إلى العام 1910، أيّام شبابي وبدء نضوجي، حين انتشرت المذاهب الماديّة والارتيابيّة العدائيّة المنتصرة، تلك الحقبة التي برزت فيها شخصيّة إرنست رينان1 كم من جهود بُذلت للتعتيم على ألوهيّة المسيح، ولطمس هذا الوجه الذي لا يمكن احتماله، ولمسح الواقع المسيحي، ولمحو ملامحه، تحت لفائف العِلم والشك المتشابكة! قسموا الإنجيل إلى قطع صغيرة، حتى أصبح كومة من المواد غير المتجانسة والمشكوك بأمرها، وقام كلّ هاوٍ بإعادة تركيبها بطريقة موقتة، لا تخلو من الادّعاء، غرقت فيها شخصيّة يسوع، وضاعت في ضباب الأدب التاريخيّ والقصصيّ والأسطوريّ. لقد ربحوا، أخيرًا! ولم يعد المسيح يسوع يشكّل إلاّ إطارًا باهتًا، وخطوطًا معرّضة للاختفاء بين لحظة وأخرى. باستطاعة المجدلية التوجّه الآن إلى القبر. لقد خطفوا منها سيّدها.
وها هي قرون تمضي، فتظهر الصورة المنسيّة، فجأة، تحت القماش، بواقعيّة مذهلة. إنّها وثيقة لا يمكن رفضها، وأكثر من ذلك، إنّه حدث واقعيّ. أُلغيت فترة التسعة عشر قرنًا بضربة واحدة، وانتقل الماضي إلى الحاضر. يقول القديس يوحنّا: «ذاك الذي رأيناه بعيننا، ذاك الذي تأمَّلناه، ولمسته يدانا، من كلمة الحياة» (1 يوحنا 1:1). إنِّها ليست وثيقة رسميّة فقط، كما يكون المحضر الرسميّ أو الإفادة الموقَّعة والمختومة: إنِّها صورة طبق الأصل، تحمل كفالتها في طيَّاتها. وهي أكثر من صورة، إنّها حضور! وأكثر من حضور، إنّها صورة مطبوعة وثابتة. وأكثر من صورة، إنّها «نيغاتيف»، أيّ نشاط مخفيّ (شبيهة بالكتاب المقدس، إذا أخذتُ راحتي بالكلام) وقادرة، بواسطة العدسة، أن تظهر الواقع بواسطة «البوسيتيف»!
فجأة، سنة 1898، بعد شتراوس، ورينان، وفي عصر لوازي2 نفسه، وتكليلاً للعمل الجبّار من الأبحاث والتأويل الذي تمّ إبَّان القرن المنصرم، أصبحت صورة المسيح في حوزتنا! هكذا!
إنّه هو! هذا هو وجهه! هذا الوجه الذي تاق العديد من القدّيسين والأنبياء إلى تأمّله، في إثر المزمور الذي يقول: «فيك قال قلبي: ألتمسُ وجهه. وجهك يا ربّ ألتمس» (مزمور 8:27). إنّه لنا. منذ الآن، وفي هذه الحياة، صار يحقّ لنا معاينة ابن الله، وجهًا لوجه، وبالقدر الذي نريد! لأنّ الصّورة هذه ليست رسمًا بيد إنسان. لا يوجد بيننا وبين هذا الوجه وسيط بشري. هو نفسه قام بطَبع هذه الصفيحة الماديّة، التي بدورها تَملَّكت روحنا.
أيّ وجه هذا! نتفهَّم هؤلاء الجلادين الذين لم يستطيعوا احتماله، والذين يحاولون، حتّى اليوم، وبقدر استطاعتهم، إخفاءه، للتخلّص منه. أعبِّر عن فكرتي بالقول إنّ ما يعطينا إيّاه هذا الظهور الرائع، أكثر من كونه رؤية الجلال الكاسحة، هو الشعور الذي في داخلنا، ما تحت الخطيئة، بعدم استحقاقنا الكامل والجذري، ذاك الوعي الذي يغطّي على العدم! يوجد في هذه العيون المغمضة، وفي هذا الشكل النهائي، وفي هذا الأثر الأبديّ، شيء ما مُدمِّر. كضربة السيف في القلب التي تؤدّي إلى الموت، إنّها توقظ الضمير. أمرٌ رهيب وجميل، ولا مجال للهروب منه إلاّ بالسجود. إنّه وقت التذكير بآية أشعيا الرائعة: «أُدخل في الصخر، وتَوارَ في التراب من أَمام رُعب الربّ، ومن بهاء عظمته» (أشعيا 10:2).
لم أكتب هذه السطور لتسجيل انطباعي الشخصيّ. لا يمكن لأيّ محقِّق، مهما كان مشكِّكًا، معارضة الرأي القائل بأنّ الشخصيّة المحفوظة صورتها على كفن تورينو بشكل غريب، في مظهرها شيءٌ مذهلٌ وشديد التأثير. نجد بسهولة توافقًا بين وجهي بودلير3 وبيتهوفن، والانطباع الذي تُولّده فينا أعمال هذين الفنّانين. مَن ينكر أنّه، ما بين القائم من الموت في العام 1898، والشخصيّة التي تتكّلم عنها الأناجيل الأربعة، بحركاتها وخطاباتها، يوجد التوافق ذاته، الذي لا يقبل الجدل؟ وأكثر من ذلك، يتوافق النصّ المكتوب مع النصّ الصوري، ويتطابقان تمامًا مع بعضهما البعض. نشعر بالأصل الذي تبدو أمامه جميع المحاولات الفنيّة أعمالاً من الدرجة الثانية، لأنّها جزئيّة وغير مكتملة، بالرغم من قيمتها الصادقة. إنّ مسيح داڤنشي4، ومسيح دورِر5 ورامبرانت6 يتوافقون مع بعض مقاطع الإنجيل، أمّا هذا فيتوافق معها كلّها، بل أكثر من ذلك، إنّه يسيطر عليها.
هذا بالنسبة إلى التطابق من الناحية الشخصيّة. لكن ما القول عن التطابق المادّي الدقيق والمفصّل للوثيقة الموضوعة بين أيدينا، مع روايات الآلام الأربع؟ جميع العلامات موجودة هنا، مكتوبة وغير قابلة المحو: جراحات اليدين، جراحات الرجلين، جرح الجنب حتّى القلب، جرح الكتف، إكليل الشوك الذي يذكرنا بسؤال بيلاطس: هل أنتَ ملك؟ وآثار الجلد الحقيقيّة التي، إذا نظرنا إليها اليوم، تقشعرّ لها الأبدان. لقد أعادت لنا الصورة هذا الجسد الذي بالكاد تجرأ المتصوفون على النظر إليه، جسد معذّب من أخمص القدمين إلى الأعلى، مغطّى بضربات الكرباج، مرتديًا الجراحات، بحيث أنّ أيّ بوصة من هذا اللحم المقدّس لم تنج من آثار التحقيق الوحشي للعدالة، هذا الجسد الذي انهمرت عليه الألسن المسلّحة بالرصاص و الكلاليب!..
ليست مجموعة من الجمل التي نفكّ معانيها سطرًا سطرًا: إنّها الآلام كلّها، تُفرش أمامنا دفعة واحدة. حتّى الزمان مكتوب: إنّه المساء، ويجب الإسراع؛ العجلة التي لُفَّ بها بقماشة، هذا الجسد الملطّخ، من دون أخذ الوقت الكافي لتنظيفه، حرصًا على طاعة أوامر السبت الداهم؛ المدّة التي استغرقتها عمليّة اللف والتي تدلّ عليها عمليّة التحلّل المتقدِّم للجثة؛ الواجب المفروض جليًا على أصدقاء المسيح للقيام بترتيبات الدفن الإضافيّة، التي اضطروا إلى تأجيلها بسبب السبت؛ توافر هذا الغطاء المتروك، كما بقايا الحشرة بعد زمان التحسير؛ وأخيرًا، بالرغم من التفسيرات الذكيّة للعلماء الذين اهتموا بالكفن المقدّس، من الصعب أن نرى، في هذه الطبعة السلبيّة المفصَّلة لجسم المسيح، على قماشة غير معدّة لهذا الغرض، وبفضل بعض الطيوب التي وُضعت كيفما كان، ظاهرة طبيعيّة، فقط. ليس لهذه الظاهرة أيّ شبيه في الأمثلة الكثيرة التي لدينا عن عمليّات الدفن القديمة. "خرجت منه فضيلة" وتركت هذا الأثر العظيم. وليس أقلّه دهشة، أَنَّ مختلف الحرائق التي انقضَّت على الكفن، أثناء كلّ هذه القرون والأحداث، قد احترمت الصورة المقدّسة، وشَكَّلت، بآثارها، إطارًا لها.
أنَّنا نحفظ التقدير للهيئات المدنيّة والدينيّة التي سمحت، أخيرًا، بفحص الذخيرة المميزة بشكل دقيق، ولرجال العلم الذين درسوها بكلّ صدق وحذاقة، أمثال السيّد بول فينيون7 وقد آن الأوان لنشر هذه الظاهرة في الأوساط الشعبيّة، وبهذه الصفة أُحيي بفرح العمل المميَّز الذي أرسلتموه إليّ، وأتمنّى له أوسع الانتشار.
* نقله الى العربية، فارس حبيب ملكي، عن النصّ الفرنسي الأصلي في كتاب:
Paul Claudel, Toi, qui es-tu ? Gallimard, 1936, 123 pages.
بول كلوديل (1868-1955) هو أديب وشاعر ومسرحي ودبلوماسي فرنسي، وجيرار كوردونييه (1907-1977) هو عالم رياضيات فرنسي وكاثوليكي مؤمن كان يعطي المحاضرات عن كفن المسيح وعن قميص أرجونتوي وعن بعض المتصوفين المسيحيين.
1 أرنست رينان Ernest Renan ( 1823-1892)، مؤرخ وكاتب فرنسي اشتهر بترجمته ليسوع التي دعا فيها إلى نقد المصادر الدينية نقدًا تاريخيًا علميًا، وإلى التمييز بين العناصر التاريخية والعناصر الأسطورية الموجودة في الكتاب المقدس، ما أدّى إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية بمعارضته.
2 ألفرد لوازي Alfred Loisy (1857-1940)، كاهن ولاهوتي كاثوليكي ألقت عليه الحرم الكنيسة الكاثوليكية، العام 1908، إبّان حبريّة بيّوس العاشر، بسبب نشره تعاليم تقدّميّة لا تتوافق مع تعليم الكنيسة.
3 شارل بودلير Charles Baudelaire (1821-1867)، شاعر وناقد فني فرنسي.
4 ليوناردو دي سير بيرو دا فينشي Leonardo da Vinci (1452-1519)، عالم إيطاليّ مشهور، كان موسوعياً ينتمي إلى عصر النهضة حيث كان رساماً، مهندساً، عالم نبات، عالم خرائط، جيولوجياً، موسيقياً، نحاتاً، معمارياً.
5 آلْبْرِخْت دورِر Albrecht Dürer (1471-1528)، رسّام ألمانيّ عاش في نورمبرغ.
6 رامبرانت هرمنسزون فان راين Rembrandt Harmenszoon van Rijn (1606-1669)، رسّام هولندي.
7 بول فينيونPaul Vignon (1865-1943)، أستاذ علم الأحياء في المعهد الكاثوليكي في باريس. في العام 1938، ونتيجة معاينة خاصّة طوال الليل للكفن المعروض أمام الجمهور في العام 1933، أَصدر كتابًا هامًا قَدَّم فيه نتائج أبحاثه عن الكفن، من النواحي العلميّة والتاريخيّة، بالإضافة إلى الإيقونوغرافيا وعلم الآثار والمنطق.