إنّ عِلم الكفن أو السندونولوجيا هو علم حديث العهد، ويشمل العديد من الاختصاصات، ويتطوَّر بسرعة، وقد غدا مادّة تدريس في معاهد اللاهوت والجامعات في أوروبا وأميركا.
تعود الدراسة الموضوعيّة الأولى عن كفن تورينو إلى رئيس أساقفة بولونيا Bologna في إيطاليا، ألفونسو باليوتو Alfonso Paleotto، أصدرها العام 1598، شرح فيها طبيعة الجروحات البادية على رَجل الكفن، مقارنًا إيّاها بما جاء على لسان الأنبياء والآباء، ومتوقِّفًا عند بعض التفاصيل الطبيّة، كمكان غرز المسامير في الجسم وعددها.
مَرَّت ثلاثة قرون دون صدور أيّ بحث علمي جديد، إلى أن جاءت الصور الأولى التي التقطها سِكُوندو بِيّا، في العام 1898، لتثير اهتمام العِلم الحديث، وتضع العلماء أمام تساؤلات جديدة، اختلفوا فيما بينهم على تقديم الإجابات عنها. فبعد أن كان كفن تورينو محطة للحجّاج ولممارساتهم التقويّة، أصبح مادّة بحث للعلماء وللنقد العلميّ.
في العام 1900، أي سنتين فقط بعد البلبلة التي أحدثتها صور سِكُوندو بيّا، قام الراهب الفرنسيّ المؤرِّخ أوليس شوفالييه Ulysse Chevalier †1923 بعرض بعض الوثائق التي اكتشفها، واستنتج منها أنّ الكفن من صُنع أحد الرسّامين. لكنّ المعاينات المباشرة للكفن، بالإضافة إلى الصور العديدة التي التُقطت له لاحقًا، أثبتت عدم وجود أيّ مادة تلوينيّة اصطناعيّة على النسيج.
وفي 21 نيسان العام 1902، قام البروفسور إيف دولاج Yves Delage †1920، المنتمي إلى مذهب اللاأدريّة Agnosticisme، بتقديم بحثٍ له إلى الأكاديميّة الفرنسيّة للعلوم، يشير فيه إلى قناعته بأنّ كفن تورينو هو نفسه الكفن الذي لُفَّ به جسد المسيح. أثار هذا البحث اعتراض زملائه، وعلى رأسهم أمين سرّ الأكاديميّة، العالم الملحد مارسيلان بِرتيلوه Marcelin Berthelot †1907، الذي طالب دولاج بإعادة صياغة بحثه، وحذفْ كلّ ما له علاقة بكفن تورينو، كي يحظى بالموافقة المطلوبة لنشره في التقرير الرسميّ للأكاديميّة. لكنّ دولاج دافع عن وجهة نظره، قائلاً بأنّ هدفه هو إظهار الحقيقة فقط، حتى ولو كَلَّفه ذلك خسارة أصدقائه.
وفي العام 1931، بدأ بيار باربيه Pierre Barbet †1961، الطبيب الجرّاح في مستشفى مار يوسف في باريس، بإجراء الاختبارات على جثث طازجة، والبحث في تاريخ الصَلب وعِلم الآثار، بعد أن عاين الكفن عن قريب، خلال العرض العلني الذي جرى في تلك السنة. وبعد عشرين سنة من الاختبارات، أصدر كتابه الشهير1 الذي لم يزل، لغاية اليوم، يحظى بالاقبال، ويُعاد طبعه من حينٍ إلى آخر.
وفي العام 1938، أَصدر البروفسور بول فينيون Paul Vignon †1943، أستاذ علم الأحياء في المعهد الكاثوليكي في باريس، وتلميذ إيف دولاج السابق ذكره، كتابًا هامًا2 قَدَّم فيه نتائج أبحاثه عن الكفن، من النواحي العلميّة والتاريخيّة، بالإضافة إلى الإيقونوغرافيا وعلم الآثار والمنطق. وكان البروفسور فينيون عاين الكفن عن قرب ولمدّة طويلة إبّان العرض العلني الذي جرى العام ١٩٣١، بعد حصوله على إذن خاصّ مكّنه من العمل من الساعة التاسعة مساءً حتّى الساعة الثانية صباحًا، برفقة صديقه المحامي سكوندو بيا الذي سبق له وكان أوّل من قام بتصوير الكفن في العام ١٨٩٨. أمّا في هذه المناسبة، فرست عمليّة التصوير على السيّد جيوسيبي أنرييه.
وبعد فترة من الزمن، بدأ يسطع اسم العالِم الفرنسيّ انطوان لوغران Antoine Legrand †2002 الذي عاين الكفن عن قرب خلال العروضات العلنيّة التي حصلت في العام 1931 و 1933 و1978. ويشير، في كتابه3، إلى أمرٍ يهمّنا في لبنان، هو منديل مار شربل، المحفوظ في دير مار مارون – عنايا. لقد قام لوغران بمقارنة الآثار الموجودة على نسيج الكفن، مع الآثار الموجودة على منديل يحمل شكل وجه القديس شربل، كان قد وُضع على وجه القدّيس، بعد حوالي خمسين سنة من وفاته، حين كان جسمه لا يزال ينضح عرقًا وموادّ أُخرى. وهناك قطعة أخرى من القماش، لم يأتِ لوغران على ذكرها، لكنّها موجودة أيضًا في الدير المذكور، أُلقي عليها القدّيس في المناسبة ذاتها، وتحمل آثار جسمه بالكامل. إنّ المنديل وقطعة القماش جديرتان بالفحص والدراسة.
لكنّ ذروة الاهتمام العلميّ كانت في العام 1978، حين قام فريقٌ مؤلَّف من أكثر من واحد وثلاثين عالِمًا، معظمهم أميركيّون، سُمِّي ستارب STURP أي Shroud of Turin Research Project بمعاينة الكفن عن كثب، بالعين المجرّدة والمعدّات المتطوّرة، خلال خمسة أيّام متتالية، قاموا بعدها بنشر النتائج التي توصّلوا إليها. إنّ المجتمع العلمي لا يزال يعوِّل على هذه الأبحاث، لذلك نقوم بعرضها هنا، بالإضافة إلى نبذة عن أهمّ الدراسات والأبحاث التي حصلت منذ ذلك التاريخ.
إنّ العالِم جيلبر رايس Gilbert Raes ، الأستاذ في معهد غانت Gent للنسيج في بلجيكا، كان أوّل مَن فحص نسيج الكفن في العام 1973، وسُمح له باقتطاع ثلاث عيّنات منه: الأولى، من صدر الكفن، بقياس 4 سنتم × 1،3 سنتم؛ والثانية، من القطعة الجانبيّة، بقياس 4 سنتم × 1 سنتم؛ والثالثة، من الخيط الذي استعمل لربط الكفن بالقطعة الجانبيّة.
وفي السنوات اللاحقة، تقدّم اختصاصيّون آخرون، أمثال الإنلكيزي جون تايرِر John Tyrer †1992، والفرنسي غبريال فيال Gabriel Vial †2005 من متحف النسيج في ليون Lyon وأعطوا الملاحظات التالية:
* إنّ الكفن مصنوع من كتّان، يقال له في الفرنسيّة Lin، وفي الإنكليزيّة Flax، وهو أنواع. من المرجّح أنّ النوع الذي استعمل في نسيج الكفن هو الكتّان البرّي Linum angustifolium، وهو غير الكتّان الشائع Linum usitissimum أي الكتّان الزراعي الصناعي المشهور.
* إنّ حالة الكفن جيّدة، ولا يتأثر بالشدّ أو الفرك، ولونه مائل إلى الإصفرار، كلون التبن.
* في نسيج الكفن بعض ألياف القطن، من نوع قطن الشرق Gossypium Herbaceum، ربما أتت من النول الذي استُعمل سابقًا لنسيج قطعة من القطن، وهذا دليل على أصل الكفن الشرقي.
* إستلزم صنع نسيج الكفن نَولاً له أربع دعسات. إنّ طريقة النسج من نوع «السرجة» ذي القطبات المتعرّجة، حيث يمرّ كلّ خيط في «اللحمة» تحت ثلاثة خيوط منها، وذلك بالمداورة، وبموازاة أوّل خيط زاوية، ومن ثمّ يَعبر فوق خيط من «السداة» ليعود بالاتجاه المعاكس، وبموازاة خطّ الزاوية الثاني، راسمًا نسيجًا مصلَّبًا. يشكّل ذلك، بحدّ ذاته، شيئًا مثيرًا للاهتمام، إذ أنّ معظم الأقمشة الرومانيّة والمصريّة، التي يرجع عهدها تقريبًا إلى زمان المسيح، كانت تُصنع عادة «بالسرجة البسيط» أي «خيط أعلى وخيط أسفل». كان النسيج المصنوع من قطبات متعرّجة بنسبة ثلاث قطبات إلى واحدة معروفًا آنذاك، لكنّه كان يستعمل بالأفضليّة في الحرير. هذا لا يعني أنّ مصدر الكفن غير أكيد، إنّما بالأحرى تبدو كلفة صنعه مرتفعة، وهذا أمر متوقّع من مشترٍ ثريّ مثل يوسف الرامي.
* هناك عنصر صغير ولكنّه مهمّ، ويساعد على تحديد التاريخ التقريبيّ لصنع الكفن: إنّه طريقة التبييض. من الممكن تحويل الكتّان الخام، ذو اللّون الأسمر، إلى كتّان أبيض، وذلك إمّا بتبييض الأوتار قبل الحياكة، وإمّا بتبييض النسيج كلّه بعد حياكته. إنّ حياكة الكتّان دقيقة، كونه قليل التمدّد، ويجعله التبييض سريع العطب. لم تستطع المناويل القديمة حياكة الوتر المبيّض، ولم تعمل التقنيات اللازمة للنّسج بطريقة جيّدة، إلاّ منذ القرون الوسطى. إضطّر الحاكة، في العصور القديمة، إلى تبييض الكتّان بعد نسجه، ممّا كان يترك بصمة للسّبب التالي: عند ملتقى السَداة باللحمة، يحمل كلُّ خيط بقعة سمراء صغيرة تُمثِّل لون الكتّان الخام، الذي لم تتمكّن عمليّة التبييض من الوصول إليه، في منطقة يَحمي فيها خيطٌ معيَّنٌ الخيط الذي يتقاطعُ معه. يكفي إزاحة الخيطين بواسطة إبرة لرؤية الآثار المميّزة. بما أنّ الكفن يَحمل مثل هذه الآثار، فهو يعود حتماً إلى عصرٍ سابقٍ للعصور الوسطى.
يَحفل عِلم الآثار، في العصر الحديث، باكتشافات هامّة، ساهمت في تنوير علماء الكفن حول تفاصيل عمليّة الصَّلب، وأشكال الصليب، ووِضعة المصلوبين.
ففي العام 1940، تمَّ اكتشاف لوحة من المرمر، في مدينة پوتسوالي Pozzuoli الواقعة جنوبي إيطاليا، تعود إلى القرن الأوّل قبل الميلاد، حُفرت عليها قواعد عمليّة الصلب، مع واجبات «متعهّد الصلب» وعمّاله و أجورهم ومعدّاتهم وبعض التفاصيل الأخرى، أطلق عليها تسمية Tabula Puteolana. تلاها، العام 1965، اكتشاف لواحدة أخرى مماثلة، في مدينة كومو Como الواقعة شمالي إيطاليا، أطلق عليها تسمية Tabula Cumana. ثمَّ عُثر لاحقًا، على مخربشات graffitis تمثِّل الصلب، في عدّة مدن إيطاليّة، في پوتسوالي ذاتها، وفي پومپاي Pompei، يعود تاريخها إلى القرن الميلادي الأوّل.
وفي العام 1947، كانت اكتشافات قمران بجوار البحر الميت، وكان الاهتمام بالأسينيّين وعاداتهم في دفن موتاهم.
وفي العام 1968، تَمَّ الاكتشاف الأهمّ، عندما عثر عالِم الآثار فاسيليوس تزافيرِس Vasilius Tzaferis، بالقرب من أورشليم، على مقبرة جماعيّة، فيها العديد من الهياكل العظميّة، من بينها واحد، أثار اهتمامه، لأنّه غُرِز في عقبيه calcanéums مسمارٌ من الحديد، طوله 17،5 سنتم. بعد استكمال البحث، تبيَّن أنّ هذا الهيكل العظمي يعود لرجل في العقد الثالث من العمر، طوله حوالي المتر وسبعين سنتم، محفور اسمه «يوحنان»، بالآراميّة، على مدفنه، قضى صلبًا في الفترة التي سبقت احتلال أورشليم في العام 70. بعد معاينة آثار احتكاك المسامير باليدين والرجلين، استطاع العلماء تكوين صورة واضحة عن وِضعة جسم المصلوب هذا، على الصليب، مكتشفين بذلك بعض التفاصيل المفيدة في عمليّة الصلب.
إحتلّ الدكتور بيار باربيه (+1961) المكان الرائد في دراسة رَجل الكفن من الناحية الطبيّة. قام باختبارات عديدة خلال أكثر من عشرين سنة، وأصدر في الخمسينات (راجع الحاشية 1) كتابًا مرجعًا، يتلخَّص محتواه بالتالي:
* غُرزت مسامير اليدين في المعصم، بين عظام الرسغ، في مكان ديستو espace de Destot، وليس في راحة اليد كما تخيلها الرسّامون، وسار بها الاعتقاد الشعبيّ.
* تصيب المسامير العصب الناصف nerf médian ما يجعل المصلوب يثني إبهامه، لذلك هو غير مرئي في يد رجل الكفن.
* يموت المصلوب اختناقًا عندما يصبح عاجزًا عن التنفّس بسبب الألم المبرّح الذي يمنعه من رفع جسمه ليخفّف الثّقل عن قفصه الصدري.
*لم يُغسل جسم المسيح، كما كانت عادة اليهود في تلك الأيّام، لأنّ الدفن تمَّ بسرعة، مراعاة لشريعة السبت.
* إنّ رَجل الكفن إنسان ميت لأنّ تصلّب الجثة rigidité cadavérique واضح، لكنّه لا يوجد على الكفن أي أثر لاهتراء الجسد، ما يعني أنّ الجسد غادر الكفن بسرعة، وذلك قبل بدء عمليّة التَحلّل.
لكنّ الاختبارات الحديثة، في هذا المضمار، التي قام بها فردريك زوغيبي (فريد الزغبي؟) Frederick Zugibe (+2013) الطبيب الأميركي اللبنانيّ الأصل، والمرجع العالمي حول تأثيرات الصلب على جسد المصلوب، تناقض معظم استنتاجات باربيه. ففي كتابه الأخير4 الصادر في العام 2005، يردّ الزغبي على النقاط السابقة بالتالي:
* صحيح أنّ المسمار غُرز بين عظام الرسغ، بحيث يأخذ مساره الصحيح، ويخرج في المكان البادي على الكفن، لكن ليس في مكان ديستو القريب من الخنصر، بل في مكان آخر، سمّاه مكان z، قريب من الإبهام.
* إنّ المسمار الذي يدخل مكان Z لا يصيب العصب الناصف، وبالتالي لا تشكِّل إصابة العصب السبب الأساسي لثني الأبهام. إن الأبهام مثني إلى جهة راحة اليد، لأنّ مكانه الطبيعي هناك، عند الأحياء والأموات.
* لا يموت المصلوب اختناقًا بل نتيجة الصدمة، فيقول الزغبي:
«لو كان عليّ إصدار وثيقة وفاة بصفتي رئيسًا لجهاز الكشف الطبّي، لكنتُ قرَّرت أن سبب الوفاة هو الصدمة جراء الإصابات الناتجة عن عمليّة الصلب. ولو فرضنا أنّه لم يمت نتيجة هذه الاصابات، فإنّ جرح الحربة، بالإضافة إلى وضع الصدمة العام، سوف يؤدّي إلى الوفاة، نتيجة التحرّك المنصفي القويّ الذي يسبِّبه الاسترواح الصدري».
* إنّ جسم المسيح قد غُسل قبل إلقائه على الكفن، ولو لم يكن كذلك، لكان الكفن كلّه مغطّى بالدم، ومن المستحيل مشاهدة آثار الجروح واضحة كما تبدو عليه الآن. وعمليّة الغسل قامت بها الطبيعة وليس النساء اللواتي كنّا على الجلجلة، نتيجة المطر المرجح هطوله في تلك الأثناء.
* صحيح أنّ رجل الكفن إنسان ميت، وتصلّب الجثّة واضح.
إنّ دراسات الزغبي لها مصداقيّة أكبر من دراسات باربيه، كونها تّمَّت بعد أكثر من خمسين سنة، في زمن تطوَّرت فيه الأبحاث الطبيّة كثيرًا.
يَتِّفق علماء الإنسان على أنّ رَجل الكفن هو ساميّ الملامح، له لحية وشعر طويل، يتراوح عمره بين الثلاثين والأربعين سنة، قال فيه كارلتون كون Carlton Coon †1981، أستاذ علم الإنسان في جامعة هارفرد إنّه «من النوع الذي نراه، في أيّامنا الحاضرة، بين اليهود السِفارديم والنبلاء العرب».
وقد توقّف بعضهم عند مقياس رجل الكفن، لكنّهم اختلفوا على احتساب طوله إذ تراوحت النتيجة بين 1.62 مترًا، كما احتسبها المونسينيور جوليو ريتشي Giulio Ricci †1995، و 1.80 مترًا كما احتسبها جاكسون وجامبر من فريق ستارب. ومَن يزور بازيليك القدّيس يوحنا اللاتيراني في روما، يرى تحفة من الحجر مكوّنة من أربعة أعمدة فوقها بلاطة تُعرف بـ Mensura Christi أو «مقياس المسيح» تدلّ الزائر على طول المسيح، عندما يقوم بقياس المسافة الفاصلة بين الأرض والبلاطة، فيحصل على نتيجة 1.83 مترًا.
لكنّ العلماء الذين عاينوا الكفن عن كثب، لاحظوا مفارقة في طول الجسم: إنّ طوله من الأمام أقلّ بخمسة سنتيمترات من طوله من الوراء! أمّا وزنه فهو حوالي الثمانين كيلوغرامًا.
في العام 1979، أَعلن الراهب اليسوعي الأميركي، فرنسيس فايلاس Francis Filas †1985، أستاذ اللاهوت في جامعة لويولا في شيكاغو، عن اكتشافه آثارًا على قماش الكفن، في منطقة العينين، بشكل أربعة أحرف لاتينيّة، هي U C A I تبدو «مطبوعة» على القماش، فاستنتج أنّها ربّما تكون جزءًا من اسم الامبراطور تيباريوس قيصر TiberioU KAIsaros، الذي كان يُنقش على العملات المعدنيّة المتداولة زمن المسيح، وقد قام أحدهم بوضع العملات على عينيّ المسيح، أثناء عمليّة التكفين.
إنّما اللافت هو أنّه نلاحظ، على الكفن، حرف C بدل حرف K، وهذا يعود إلى خطأ في النقش، وقد توصّل فايلاس إلى العثور على قطعة من العملة ذاتها، عليها الغلطة النقشيّة نفسها.
ليس معروفًا بعد السبب الحقيقي لوضع العملات على العينين، وهو مستغرب، لذلك لم يُلاقِ هذا الاكتشاف إجماعًا بين العلماء، ولا يزال يخضع للنقد العلميّ الموضوعيّ.
لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع، أُحيل القارئ على المقابلة مع أليتيا، باللغة الفرنسية، في 6 أيار 2017.
في العام 1973، دُعي ماكس فراي Max Frei †1983، مدير المختبر العلمي التابع لدائرة البوليس في زوريخ – سويسرا، إلى معاينة الكفن عن كثب، عَلَّه يكشف عن شيء جديد. وفي ليلة 23 تشرين الثاني، بعد الانتهاء من العرض التلفزيوني الخاصّ بالمناسبة، حصل على الإذن بوضع 12 شريطًا لاصقًا على نسيج الكفن، ثمّ سَحَبها، فتمكّن من الحصول على 12 عيّنة من الغبار العالق على سطح الكفن.
عند عودته إلى مختبره في سويسرا، حَدَّق في العينات بواسطة المجهر، فلاحظ وجود أجزاء صغيرة مختلفة من الفطريّات والشَعر واللقاحات. توقّف عند اللقاحات محاولاً معرفة جنسها، بالرغم من إدراكه صعوبة التعرّف إليها. لكنّه تَوصَّل، بعد سنوات من البحث والتدقيق، وبالاستناد إلى خبرته الواسعة، وإلى التصنيف الشامل الموجود لديه، وإلى رحلات قام بها إلى الأ{اضي المقدّسة والقسطنطينية، إلى التعرّف على 58 نوعًا من اللقاح، بينها 6 لقاحات لأزهار لا تنبت إلاّ في ضواحي البحر الميت، وأخرى لأزهار موجودة فقط في تركيا، خصوصًا في برّ الأناضول. فاستنتج أنّه لا بدّ من أن يكون الكفن قد أمضى فترة من الزمن في الشرق، داعمًا بذلك اكتشاف «قطن الشرق» على نسيج الكفن، على يد معاصره البروفسور رايس. يتابع دراسات فراي ويتقدّم بها أستاذا الجامعة العبرية في أورشليم: أوري باروخ Uri Baruch، وأفينوام دانين Avinoam Danin .
تُشاهَد، على نسيج الكفن، خاصّة عند الرأس والظهر والمعصمين وأسفل الرِجلين، بقع قرمزيّة اللون من مختلف الأحجام، كان الدكتور باربيه عاينها عن كثب، وأَكّد أنَّها بقع دم. ثمّ أتى عضوا الستارب، جون هيلِر John Heller †1995، وآلان آدلِر Alan Adler †2000، اللذان أخذا عيّنات من هذه البقع، وقاما بتحليلها في المختبرات الأميركيّة المتطوِّرة، وأكَّدا أنَّها فعلاً بقع دم إنسان. وفي رسالة خاصّة بعثتُ بها إلى جون هيلِر، سألته: «كيف يجوز أن يبقى الدم مدّة ألفي سنة؟» فأجابني: «لا أرى سببًا كي لا يبقى الدم، حيث لا يتبخَّر، وقد وجدنا مادة البورفيرين Porphyrine في أصفاد متحجرة، يعود تاريخها إلى خمسة ملايين سنة»، والمادة المذكورة هي أساسيّة في تكوين الدم. ثمّ ذهب الإيطالي بيار لويجي بولوني Pierr Luigi Bolloni إلى أبعد من ذلك، إذ أكّد أنّ هذا الدم هو من فئة AB، وقد وافق الأميركيّان على فحوصه.
كان المعترض البارز على دراسة هيلِر وآدلِر هو والتر ماكرون Walter McCrone †2002، زميلهما في الستارب، الذي قال إنّ البقع القرمزيّة اللون هي مادة تلوينيّة اصطناعيّة، استعملها أحد الرسّامين. وقد برهن ذلك بحجّة أنّه عثر على مادة أوكسيد الحديد التي كان يستعملها الرسّامون قديمًا. لكنّ زملاءه ردّوا عليه، رافضين قوله بحجّة أنّ كميّة أوكسيد الحديد التي عثر عليا ضئيلة جدًّا، ولا يمكن أن تكون في أساس البقع القرمزيّة، ثمّ أنّها موجودة على كلّ مساحة الكفن، لا في مكان البقع القرمزيّة فقط، وهي بالتالي جزء من النسيج بأكمله.
إنصبّ علماء الكيمياء، على رأسهم آلن آدلر، على تحليل البقع القرمزيّة اللون، بالإضافة إلى المواد المختلفة العالقة في خيوط نسيج الكفن، فأكّدوا أنّ آثار الجسم على الكفن ناتجة عن تدرّج ألوان الخيوط، وأنّه لا وجود لآثار اهتراء الجسم الذي لُفّ به هذا الكفن، ما يعني أنّ الجسم غادر الكفن قبل بدء عمليّة التحلّل، وأنّه ليس من المعقول أن يكون اللون القرمزيّ مادّة تلوينيّة لأنّه:
* لو كان هناك تلوين، لسال مع ارتفاع الحرارة، في أثناء تعرّض الكفن للحريق عدّة مرّات، وأهمّه حريق العام 1532.
* يُظهر التحليل بواسطة الكمبيوتر، عدم وجود اتجاهات محدّدة في البقع، وهذا يعني استحالة استعمال ريشة فنّان.
* ليس من تطابق مع أيّ مادّة تلوينيّة استُعملت منذ آلاف السنين حتّى اليوم. وقد قام هيلِر وآدلِر بدراسة صباغ الأرجوان الذي كان يُستخرج قديمًا من الأصفاد الموجودة على شواطئ صور وصيدا، فلم يلاحظا أيّ قاسم مشترك مع طبيعة البقع على نسيج الكفن.
وتبقى مشاركة راي روجرز Ray Rogers †2005، العالم الأميركي العملاق، أساسيّة لاثبات هذه الحقائق، وسنتكلّم لاحقًا عن مساهمته الفعّالة في دحض نتائج فحص الكاربون 14.
لا تعطينا الأناجيل وصفًا واضحًا للمسيح، ولا تقدم لنا كتابات المؤرّخين والآباء معلومات دقيقة عن شكله، وكثرٌ هم الناس الذين يتحرَّقون شوقًا لرؤية وجهه. هل كان شنيعًا «لا صورة له ولا بهاء فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه» كما تنبّأ أشعيا (2:53) وأكّده إكليمنضُس الإسكندريّ †215؟ أم كان «أجمل بني آدم» كما جاء في المزمور 2:45؟ أم أنّ «لون شعره الذهبيّ ولحيته اللطيفة جعلت هيئته سماويّة... ولم أرَ في حياتي وجهًا صبوحًا أحلى أو أصفى أو أنقى من وجهه» كما جاء في تقرير بيلاطس البنطي المنحول إلى الأمبراطور تيباريوس قيصر؟
مهما يكن من أمر، تقدّم لنا الإيقونوغرافيا معلومة هامّة: إنّ معظم أيقونات السيّد المسيح، بدءًا من القرن السادس، تحمل علامات مشتركة مع الوجه الذي نراه على الكفن، ما يدلّ على أنّ رسّامي الأيقونات استوحوا رسوماتهم من مصدر واحد، هو الكفن، لَمّا كان مطويًّا لا يُرى منه سوى الوجه، وهذا دليل إضافي على أقدميّته. أحصى بول فينيون العلامات المشتركة، فتبيَّن له أنّ عددها عشرون؛ وأحصاها مؤخّرًا الأميركي آلن وانغر Alan Whanger، بواسطة طريقة حديثة متطوّرة، فتَبيَّن له أنّها أكثر من مائتي علامة، نذكر أهمّها: الخطّ الأفقي في وسط الجبين، الحاجب الأيمن الذي هو أكثر كثافة من الحاجب الأيسر وأعلى منه، الوجنتان البارزتان، اللحية المنقسمة إلى اليمين وإلى اليسار، خصلة الشعر على الجبين...
في 21 نيسان 1988، تَمَّ اقتطاع عيّنات من الكفن سُلِّمَت إلى ثلاثة مختبرات عالميّة لإجراء فحص الكربون 14عليها، لمعرفة تاريخ النسيج. وُضعت العمليّة بكاملها تحت إشراف المتحف البريطانيّ، بشخص البروفسور مايكل تايت Michael Tite. أمّا المختبرات الثلاثة فهي تابعة لجامعة توسّون Tucson في ولاية أريزونا في أميركا، وجامعة أُكسفورد في إنكلترا، ومعهد الپوليتكنيك في زوريخ Zurich في سويسرا. أُعلنت النتيجة في 13 تشرين الأول سنة 1988، بلسان الكردينال أناستازيو بالِستريرو Anastasio Ballestrero †1998، كردينال تورينو وحافظ الكفن، وكانت أنّ الكفن صُنع ما بين العام 1260 والعام 1390! [ ليست علامة التعجّب من المؤلِّف بل من العلماء الذين كتبوها على اللوح أثناء المؤتمر الصحافي لإعلان النتيجة].
ما أن أُعلنت النتيجة حتى نشرتها وسائل الإعلام كالبرق، فتلقَّفها المتحمِّسون للكفن بخيبة أمل، وارتاح لها المشكِّكون. لكنّ الكردينال بالِستريرو أرفق إعلانه بالملاحظة التالية:
«ليس باستطاعة أحد إرغامي على الموافقة على هذه النتيجة. العِلم هو الذي سيحكم على العِلم... إنّ هذه الفحوص لا تُنهي فصول الكتاب حول الكفن، وهي ليست إلاّ فصلاً آخَر يُضاف إلى قصّة الكفن أو، كما يقول بعضهم، إلى ألغاز الكفن. وبعد كلِّ هذه الأبحاث، ليست لدينا أجوبة لتفسير كيفيّة حدوث صورة المسيح هذه».
أثارت تلك النتائج انتقادات علميّة عديدة، وتساءل العلماء الذين لم يشاركوا في فحوص المختبرات الثلاثة: هل تَمَّ تنظيف العيّنات من آثار التلوّث المتراكم على سطح النسيج، بطريقة جيّدة؟ وهل تمّت دراسة التأثير على القماشة جرّاء الحريق الذي تعرَّض له الكفن، العام 1532، وإمكانيّة تعديل كميّة الكاربون 14 فيه؟ ولماذا لم تؤخذ العيّنات من أماكن مختلفة من الكفن، بدل أن تؤخذ كلّها من مكان واحد مشكوك بأمره؟ أوَ لم يكن من الأفضل توكيل الفحوصات إلى عدد أكبر من المختبرات؟ وإذا كانت النتيجة فعلاً صحيحة، كيف نفسِّر جميع الدراسات العلميّة الأخرى التي سبق ذكرها، بالإضافة إلى الحجج التاريخيّة والكتابيّة الداعمة لصحّة كفن تورينو؟
ظلّ الوضع على حاله، بين أخذٍ وردّ، إلى أن نشر راي روجرز، في المجلّة الأميركيّة المتخصِّصة Thermochimica acta، العدد 425، العام 2005، بحثا حاسمًا، بَرهن فيه أنّ المكوّنات الكيميائيّة للعيّنة التي اقتُطعت من الكفن لإجراء فحص الكاربون 14 عليها، تختلف عن المكوّنات الكيميائيّة لباقي نسيج الكفن، وأنّ عمر النّسيج الأساسيّ يتراوح ما بين 1300 سنة و3000 سنة. فاستنتج المجتمع العلمي أنّ عيّنة الكربون 14 لم تكن جزءًا من الكفن في الاساس، وربّما أُضيفت لاحقًا بطريقة حذقة وغير مرئية! ومع أنّ راي روجرز لم يكن له متَّسع من الوقت لتأكيد هذا الاستنتاج، إذ وافته المنيّة بعد أسابيع معدودة، بسبب معاناته من مرض السرطان، لكنّ دراسته الرصينة، والمشهود لها من المجلّة العالميّة، لاقت تجاوبًا سريعًا من المجتمع العلميّ، وأعادت الأمل إلى مناصريّ صحّة الكفن.
لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع، أحيل القارئ إلى المقابلة مع أليتيا، باللغة الفرنسيّة، في 10 حزيران 2017.
طالما تداول أعضاء اللجنة الأبرشيّة للمحافظة على الكفن في إمكانيّة القيام بترميم الكفن، إلى أن قَرَّروا المباشرة بالعمليّة، بعد حصولهم على الإذن من كرسيّ روما الرسولي. بدأت عمليّة الترميم في 20 حزيران العام 2002، تحت إشراف الكردينال سِفيرينو بوليتو Severino Poletto ، رئيس أساقفة تورينو، ورئيس اللجنة، وامتدَّت حتّى 23 تموز من العام نفسه، قامت بها إختصاصيّة النسيج السويسريّة ميختيلد فلوري لامبرغ Mechtild Flury Lemberg وتلميذتها الإيطاليّة إيرينيه تومادي Irene Tomedi ، ومرَّت في ثلاث مراحل:
* المرحلة الأولى، من 20 حزيران لغاية 25 منه، تَمَّت فيها إزالة «البطانة» المعروفة بـ «نسيج هولنده» Holland cloth مع الرقع التي وضعتها الراهبات الكلاريّات في العام 1534، وشَدّ الكفن بواسطة الأثقال، بغية إزالة طيّات النسيج.
* المرحلة الثالثة، من 16 تموز لغاية 23 تموز، تَمّ فيها خياطة «بطانة» جديدة، وتصوير الكفن في حلّته الجديدة.
أثناء معاينة الجهة الخلفيّة للنسيج، كشف المرمِّمون وجود آثار باهتة لكامل الجسم ، لم تكن معروفة في السابق – إذ كان الاعتقاد أنّ آثار الجسم موجودة فقط على الجهة الأمامية – أصبحت تشكّل مادة علميّة جديدة للعلماء المعاصرين، يتناولونها بالدراسة والتحليل.
بعد الانتهاء من الترميم، وصدور التقرير الرسمي الذي أعدّه المونسينيور غيبارتي، رئيس اللجنة الأبرشيّة للمحافظة على الكفن، تمّ نشر الصور الجديدة للكفن، فبدا منظره مريحًا للعيان، ما سيفرح حتمًا الحجّاج الذين سيتأملونه إبّان العرض القادم. لكنّ العديد من العلماء، ومن بينهم راي روجرز، انتقدوا بشدّة عمليّة الترميم، مطلقين بحقّها أبشع الصفات، فقالوا إنها «مجزرة» وعمليّة «تدمير»، لأنّه كان يجب على المرمّمين استعمال القفّازات عند ملامستهم سطح النسيج، لتلافي نقل التلوّث من اليدين على النسيج؛ وكان يجب عليهم المحافظة على كلّ الغبار، والخيوط المحروقة و «الفالتة»، والرواسب المختلفة الموجودة على سطح النسيج، للاستعانة بها في فحوصات لاحقة. لكنّ المسؤولون عن عمليّة الترميم أجابوا بأنّهم أودعوا كلّ شيء في حاويات صغيرة مرقمة، لكنّهم اضطروا إلى العمل من دون قفازات، كما هي عادة الخياطين، لتحسّس القماش، فيأتي الترميم على أفضل ما يرام.
أراد بعض العلماء إجراء حساب الاحتمالات لمعرفة احتمال كون الكفن لشخص آخر غير يسوع المسيح، فقاموا بمعاينة مراحل التعذيب التي مرَّ بها رجل الكفن، وقارنوها مع ما يُحتمل أن يكون غيره من المحكومين قد مَرَّ به: الجَلد القوّي بالمقارنة مع الجَلد الخفيف، وإكليل الشوك الفريد من نوعه، ودقّ المسامير بالمقارنة مع الربط بالحبال، وعدم كسر الساقين كما كانت العادة، وطعنه الحربة مع خروج الدم والماء، واللفّ بالكفن بدل الرمي في الحفرة العموميّة، ومغادرة الكفن دون ترك أيّ أثر لاهتراء الجسم، وغيرها من الأحداث التفصيليّة.
إنّ فرنسيس فايلاس حصل على احتمال 1 على 10 بقوّة 26. أمّا برونو باربيرس Bruno Barberis فحصل على احتمال1 على225 مليار. أمّا كينيت ستيفنسون Kenneth Stevenson، الناطق الرسمي باسم الستارب، فتوصّل إلى احتمال 1 على 83 مليون، وهو أكبر نتيجة بالإمكان الحصول عليها.
تُشير جميع هذه الحسابات إلى أنّه من المستحيل، عمليًّا، أن يكون كفن تورينو يخصّ شخص آخر غير يسوع المسيح.
تحديث آذار ٢٠٢٣