إنّ الكتّان من أقدم النباتات الصناعيّة، وتعود زراعته وصناعة أليافه، في بلاد ما بين النهرين وفي مصر، إلى أكثر من أربعة آلاف سنة.
أمّا زراعته الحاليّة فواسعة الأرجاء، تشمل الولايات المتحدة والأرجنتين وروسيا وبولونيا وليتوانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وتركيا. لكنّ صناعة أليافه تراجعت، منذ القرن الماضي، بسبب مزاحمة القطن له. استُعمل مؤخرًا، في الولايات المتحدة، لصناعة أوراق السجائر، والأدوية الطبيّة. كما شاع استخراج الزيوت من بزر الكتّان لتدخل في صناعة حبر الطباعة والدهان والصابون.
يُبذَر عادة في أوائل الربيع، ويُقتلع عندما تَصفرُّ سوقه، في أوائل الصيف. فيُترَك في الحقل بضعة أيّام إلى أن تجفّ سوقه، ثمّ يُنقَل إلى المضارب حيث تُفصَل البذور عن السوق. تَذهب البذور إلى الصناعات الوارد ذكرها سابقًا. أمّا السوق، فتُفصَل عنها الألياف الصناعيّة النسيجيّة، بواسطة الحرارة، في معامل خاصّة مجهَّزة لهذه الغاية، أو بواسطة الماء، وهو ما يسمّونه التعطين، حيث يتمّ نقع حزم سوق الكتّان بالماء الراكد مدّة من الزمن، تتراوح بين الأسبوع والأسبوعين، بحسب حرارة الموقع. ثمّ تأتي عمليّة التبييض، التي تقضي بغلي الكتّان في الرماد أو «الصفوة» مع بعض أنواع النباتات، ثمّ تعريضه للشمس. تُكرَّر العمليّة عدّة مرّات حتّى الوصول إلى النتيجة المطلوبة. إنّ ألياف الكتّان، بشكل عام، قاسية وصلبة، لذلك لا يشتهيها العث والحشرات الأخرى، بخاصّة بعد غلي الألياف وتبييضها.
وردت كلمة كتّان 83 مرّة في الكتاب المقدّس، العهد القديم. نجد الذكر الأوَّل لها عندما كافأ فرعون مصر يوسف: «...ونزع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف، وأَلبَسَه ثياب كتّان، وطَوَّق عنقه بقلاّدة من ذهب» (سفر التكوين 41 : 42). ثمّ نجد ذكر الكتّان ضمن الموادّ المطلوب استعمالها في صنع المقدس، وفي لباس الكهنة. أمّا المرأة الفاضلة، فهي التي «تطلب صوفًا وكتّانًا وتعمل بيدين راضيتين» (سفر الأمثال 31 : 13).
توالى ذكر الكتّان في كتب العهد الجديد 7 مرّات. جاء في سفر الرؤيا أنّ الملائكة «يلبسون كتّانًا نقيًّا برّاقًا، وحول صدورهم أحزمة من ذهب» (سفر الرؤيا 15 : 6). وحيث أنّ عرس الحمل قد جاء وقته «تَزيَّنتْ عروسه وأُعطيت أن تلبس الكتّان الأبيض الناصع. والكتّان هو أعمال القدّيسين الصالحة» (سفر الرؤيا 19 : 8).
ولَمّا رأت الكنيسة أنّ للكتّان أثر هامّ في التقليد الكهنوتي، وفي طقوس شعب العهد القديم، بالإضافة إلى كونه قد لامس جسد المسيح يسوع، عندما كُفِّن به، آثرت الاحتفاظ بعادة استعماله في طقوسها. فالبابا القدّيس سِلڤسترُس الأوَّل (...-314-335) أَمر، في مجمع روما، بأن يكون شرشف المذبح الخاصّ بالذبيحة الإلهيّة، من كتّان أبيض، تجسيدًا لذبيحة يسوع، وسفك دمه على الصليب، ولفّ جسده بكفن من كتّان، ولتأوين هذا الحدث أمام المؤمنين، على المذبح.
جاء على لسان البطريرك العلاّمة اسطفانُس الدويهي أنّ «البابا بونيفاس1 أَمرَ أن تكون الأغطية التي توضع تحت الأسرار المقدّسة ثلاثة من كتّان، أمّا في بلاد الشرق فيستعملونها من كتّان أو من قطن... إشارة إلى اللفائف التي لُفَّ بها جسد الربّ في المذود والسَّرير والقبر وغيرها».2
وبالإشارة إلى استعمال الصمدة، يقول الدويهي إنّ الكنيسة الرومانيّة تأمر «جميع كهنتها أن يضعوا صمدة وهي منديل أبيض نظيف من كتّان بين آنية القدس وثياب المذبح. وهذه الصمدة يكرّمونها جدًا... لأنَّهم في رتبتهم يضعون عليها القربانة المقدّسة. وبعد أن يكسر الكاهن الجوهرة يضع الأجزاء على الصينيّة، ويقولون إنّها إشارة إلى الكفن الذي لُفَّ به جسد الربّ في القبر، كما يذكر الإنجيل المقدّس، أنّ كفن الربّ كان من كتّان (مرقس 15:46). وكذلك أَمرَ سيلبسطروس3 الذي عَمَّد قسطنطين الملك، أن لا تكون الصمدة حمراء، ولا تُتَّخذ من حرير ولا من جوخ، بل من كتّان أبيض نظيف. أمّا الرهبان القورتسيان4 الذين ببلاد الغرب فيفرشون الصمدة تحت الأسرار ثمّ يطوونها فوقها لتكون على هيئة الكفن الذي تغطّى به جسد الربّ... أمّا طائفتنا فإنّها تستعمل الصمدات منذ مائة سنة».5
تحديث آذار ٢٠٢٣
1 لم يوضح البطريرك الدويهي عن أيّ بونيفاس يتكلّم.
2 مار اسطفان الدويهي، منارة الأقداس، المنارة الثانية، الشرح الثاني، في أغطية المذبح، صفحة 148.
3 البابا سيلڤسترُس الأوَّل، بابا روما من العام 314 حتّى العام 335.
4 الرهبان السِسترشيين Cisterciens
5 مار اسطفان الدويهي، منارة الأقداس، المنارة الثانية، الشرح الثالث، في الصمدة وغطاء الكأس، صفحة 178.